شعر الشاب الأسترالي "خوان مان" بالكثير من الاكتئاب نتيجة لعقبات أسرية وشخصية أدت إلى انعزاله وتفضيله الوحدة، معاناته طالت لعدة أشهر حتى خرج في إحدى الليالي لحضور فعاليات أحد الأحزاب الذي ينتمي إليه، وقام أحد الحضور الذين لا يعرفهم بعناقه واحتضانه كنوع من الترحيب به داخل الحزب، يقول "خوان مان": "شعرت حينها بأن هذا الشخص ملك، كان عناقه لي أعظم ما حدث من أي وقت مضى".

الشعور الجيد نتيجة الحضن والعناق اللذين تلقاهما "خوان" في 1 ديسمبر 2004 جعله يبادر بحمل لافتة في مكان عام كتب عليها 'Free Hug" أي "حضن مجاني" كدعوة للحصول على أحضان مجانية من مرتادي المكان، بدأها من مسقط رأسه، إلا أنه وبعد انتظاره لمدة 15 دقيقة لم يحصل إلا على حضن يتيم تلقاه من سيدة عجوز، وذلك لإحجام العديد عن معانقته لعدم معرفتهم به بعد أن رحل أصدقاؤه وعائلته منذ سنوات عديدة من المنطقة التي كانوا يعيشون بها، ولأنه ليس من عادتهم التعامل مع الغرباء، استفزه ذلك الجفاء الذي لاقاه من أهالي منطقته ما جعله يحمل لافتته ميمماً وجهه شطر مدينة "سيدني" الأسترالية للعمل على حملة للحضن المجاني، وتفاعل معه عدد كبير من الشباب والفتيات، حتى قامت الشرطة الأسترالية في أكتوبر من عام 2005 بمحاربة هذه الظاهرة لمخالفتها قوانين أستراليا التي تشترط قبل القيام بهذه الحملات الحصول على تصريح، والذي كان يمنع "خوان" من الحصول عليه هو اشتراطهم أيضاً التأمين ضد المسؤولية العامة بقيمة 25 مليون دولار، لم يستسلم "خوان" لهذا الشرط وشرع في حملة لتوقيع عريضة تقدم للسلطات الأسترالية لإعفائها من التأمين حتى استطاع وخلال فترة وجيزة أن يحصل على ذلك بعد تقديم عريضة تحمل على صدرها 10,000 توقيع، ما جعل السلطات الأسترالية تسمح له بالحصول على تصريح دون دفع مبلغ التأمين، ساعدته الشرعية التي اكتسبتها حملته على إضفاء الكثير من الوهج الإعلامي، والذي كان له الأثر الأكبر في ذلك هو صديقه "مور" المغني الرئيس في فرقة -Sick Puppies- الذي دعمه بعرض لقطات له وهو يقوم بحملات "حضن مجاني" بأحد فيديو كليبات فرقتهم الموسيقية، الذي حقق انتشاراً واسعاً حتى وصلت عدد مشاهداته مؤخراً إلى 74 مليون مشاهدة خلال فترة وجيزة، لفت هذا الانتشار انتباه المذيعة العالمية "أوبرا وينفري" فاستضافته في 30 أكتوبر من عام 2006 بإحدى حلقات برنامجها الشهير "أوبرا" لمناقشته حول هذه الحملة، وكان من ضمن فقرات الحلقة دعوة عامة لأن يخرجا معاً لتقديم "حضن مجاني" في الشارع تحت رعاية من البرنامج، الذي جعل عددا كبيرا يحتشد لتقديم حضن مجاني لـ"خوان مان" ولعدم كفاية الوقت لم يستطع أن يحضنه الجميع فقدم دعوة عبر صفحته في "الفيسبوك" لمن لم يسعفه الوقت أثناء الوقت المخصص من البرنامج بأن يأتي لمنزله للقيام بذلك، واحتشد عليه الحضور عند منزله حتى هدده مالك العقار بالطرد، ولم يتوقف بل استمر في الحملة حتى أصدر كتاباً إلكترونياً يتحدث فيه عن تجربته، وختم مشواره في عام 2009 بإعلانه التقاعد من رئاسة حملة "حضن مجاني" ودعوته لإجراء انتخابات لتعيين رئيس جديد للحملة.

هذه الحملة التي قامت على قاعدة الفراغ العاطفي جعلتهم يبحثون عن العاطفة في أحضان الغرباء، والتجاوب الكبير معها على مستوى العالم لا يدل على نجاحها وازدهارها بل على فشلنا في إشباع حاجات أطفالنا العاطفية، لا يوجد شخص سوي نفسياً يقف في الشارع فقط لكي يحضن أناسا غرباء، إن النشوة التي يشعرون بها بعد كل حضن دليل قاطع على أننا بخلاء جداً في إبداء العاطفة لهم وهم صغار، وحتى إذا ما كبروا بحثوا عن سدها بطرق شتى وقد تتنافى مع السلوك القويم للإنسان السوي، وتخالف تعاليم الأديان السماوية، نتقشف في إبداء العاطفة لأطفالنا ونعاملهم في كثير من الأحيان بقسوة على كل خطأ يرتكبونه أو إزعاج يصدرونه. نوقظهم في الصباح على عجلة لكي لا يتأخرون على مدارسهم ونتعطل عن أعمالنا، نلتقي على وجبة الغداء دون ابتسامة، ودون إصغاء لأحاديثهم ودون إجابة لأسئلتهم الطفولية، ونخرج مرة أخرى في المساء من المنزل دون أن نسألهم عن يومهم عن احتياجاتهم، ونقفل معظم أحاديثنا معهم بكلمة "بعدين".. "بعدين"، وحينما يكبرون نبدي استغرابنا وتعجبنا من تفاقم مسألة الحرمان العاطفي في أوساط شبابنا وفتياتنا، إن إبداء العاطفة يحتاج إلى جهد وتضحية وخاصة في ظل حياتنا وروتيننا اليومي المليء بالأعمال، وانشغالنا عنهم بوسائل التقنية الحديثة حتى أصبحت علاقتنا بهم تكاد أن تقتصر على محادثات مواقع التواصل الإلكترونية، وما لم نتدارك تقصيرنا نحوهم ونقوم بتفعيل مسؤوليتنا تجاههم ومنحهم الوقت والإصغاء والاهتمام سنجدهم غداً يبحثون عنها في أحضان الغرباء كما فعل مناصرو حملة "الحضن المجاني" في كل دول العالم.

العاطفة هي أفضل ما يمكن أن نقدمه لأطفالنا، الأموال التي ندسها في حقائبهم ستنفق، والألعاب التي نقتنيها لهم ستتناثر وتتقادم وتتكسر، والملابس التي نختارها لهم بعناية سيكبرون وتضيق، وحدها العاطفة ستبقى للأبد وستمنحهم الامتنان والأمان، يقول الفيلسوف الألماني جورج هيغل: "لم يتم تحقيق شيء عظيم في هذه الحياة دون عاطفة"، ومستقبل أطفالنا هو أكثر ما نتمناه أن يكون عظيماً، وستتعثر مسيرتهم ما لم نمنحهم عاطفة كريمة وسخية كل يوم تقيهم عقبات الحياة وتحدياتها.