إحدى الصدمات الشائعة التي يواجهها الطلبة العرب في أميركا، هي عندما يقولون عبارة عامة عن شعب معين أو عن قضية معينة، ويرتفع حاجب زميله الأميركي أو أستاذه سائلا إياه: كيف عرفت؟

وعندما يجيب الطالب العربي: إن هذا بناء على تجربته في الحياة، يلحظ بوضوح الاستنكار في وجه المتلقي، الذي لم يتعود على مثل هذه العبارات.

تذكرت هذه المواقف وأنا أستمع إلى ندوات منتدى الإعلام العربي في دبي الأسبوع الماضي، فبينما كانت الندوات تتناول قضايا هامة وحيوية، كان المشاركون في الندوات ـ ومنهم أنا ـ يبنون كلامهم على مجموعة من التجارب الشخصية والتعميمات وتحليل المواقف، مع القليل جدا من المعلومات الموثقة والنتائج الإحصائية، في تكرار لحالة عامة ومستعصية لواقع المثقفين والإعلاميين العرب منذ عقود طويلة.

الفارق يحصل لأن الغرب ينفق مليارات الدولارات على البحث العلمي والإحصاءات، بما فيها الإحصاءات الغريبة والطريفة، ويبذل فيها كثير من الناس حياتهم، وقد تتعجب لأول لحظة من هذا التفاني في عمل إحصائي يشرح لك أمورا تبدو بديهية، وذلك باختصار لأن الغربيين لا يتقبلون أن يبني إعلامي مقاله أو يبني سياسي قراراته أو يبني رجل أعمال تحليلاته المالية دون وجود "داتا" أو معلومات صلبة مقبولة علميا، حتى لو كان حدسه وتجربته في الحياة تقول شيئا معينا، بل إنني أؤكد أنني من مخالطة المتعلمين الغربيين، تشعر أنهم لا يستطيعون اتخاذ قرارات تربوية في إدارة منازلهم أو حتى قرارات في تسيير حياتهم دون معلومات ونتائج علمية يبنون عليها توجهاتهم. هذا التوجه الاجتماعي العام والناضج يجعل لكل بحث قيمته، ولكل معلومة دورها الجوهري، ويجعل القراءة أمرا هاما لكل شخص يريد أن يتحدث في شأن ما أمام العموم.

الواقع العربي كما نعلم مختلف تماما. هذا بالرغم من أننا أمة "اقرأ" وأمة "من قال لا أدري فقد أفتى"، ولكن الحقيقة الأكيدة أن الإعلاميين والمثقفين والأكاديميين لا يمكنهم الالتزام بالصمت حتى معالجة المشكلة. هذه مشكلة مجتمع وثقافة مستعدة للحديث طويلا عن أي موضوع دون أن يخطر ببال أحد السؤال عن الأرضية المعلوماتية التي يقف عليها النقاش.

جزء أساس من المشكلة يأتي من غياب قواعد المعلومات. بينما لا يوجد عربيا أي قاعدة معلومات واحدة منظمة وشاملة، يوجد في أميركا أكثر من 400 قاعدة ضخمة، تأتي لك بما تريد بضغطة زر، وهذه القواعد موجودة قبل الإنترنت، وازدهرت أكثر بعد الإنترنت، إذ لا يكتفي الناس بالبحث على جوجل؛ لأن جوجل يأتي لك بكل ما هب ودب، وليس بالمعلومة الموثقة والعلمية التي يمكن بناء الأبحاث والمقالات عليها.

هذا من جهة أخرى، أثر على كياننا البحثي، فطالب الدراسات العليا أو الباحث العلمي العربي، يجد أن دراسته لم تنفع أحدا بعد أن يكون قد بذل فيها جهده؛ لأنها ستزين مكتبته ومكتبة جامعته، وينتهي الأمر عند ذلك. هذه الدراسة لن تصبح جزءا من تراكم علمي يحققه المجتمع ويبني عليه عاما بعد عام، هي مجرد بحث تم وانتهى، ويبدأ الطالب الذي بعده من جديد.

هل يكذب الإعلاميون والمثقفون؟

لا أستطيع أن أقول: إنهم يكذبون، وأنا أدافع عنهم لأن مسؤولية غياب المعلومة والإحصاءات هي مسؤولية المؤسسة الحكومية، ومسؤولية المؤسسات الأكاديمية التي لم تستثمر على الإطلاق في قواعد المعلومات، ولا تضع البحث العلمي ضمن أولوياتها إلا بما يخدم السلم الأكاديمي، ومسؤولية الناس التي لا تتعاون مع شركات الأبحاث ولا تتشدد في طلب المعلومات، والشركات التي لا تبد استعدادا على الإطلاق لتحمل مسؤوليتها الاجتماعية في دعم الأبحاث والدراسات، كما نراه ماثلا للعيان في النموذج الغربي.

الإعلاميون والمثقفون ومن يغردون على تويتر لا يكذبون عمدا، ولكن كثيرا من كلامهم مبني على الجهالة والأخطاء والتعميمات المبنية على التجربة الشخصية فقط، وهذا سمح للاستنتاج المعاكس بالانتشار بيننا "أي الوصول إلى النتيجة أولا بناء على ميول شخصية، ثم البحث عن الأدلة والشواهد التي تدعمها".

في عالم الإعلام الرقمي والتكنولوجيا، هناك كم خرافي من المعلومات والإحصاءات؛ لأن الإنترنت يسمح لك برصد كل معلومة وكل حركة للمستخدم، وهذا شجعني على تأسيس موقع يرصد تلك المعلومات على شكل رسوم معلوماتية "إنفوجرافيكس"، ولكن عبر سنتين من نشر المعلومات يوميا في الموقع، كان أكثر ما يمكن إيجاده هي المعلومات الغربية، أما المعلومات العربية فهي شحيحة ونادرة وقائمة على التقدير البحت؛ لأن المؤسسات الحكومية لا تقدم التقارير التي يحتاجها أبناء التخصص، بينما المؤسسات البحثية القليلة التي ترصد هذه المعلومات وتبيعها في تقارير مشكوك بشكل كبير في مصداقيتها ونزاهتها، دون وجود رقيب يرصد ذلك الأمر، ربما لأن أحدا لا يهتم..!