وإذا ما زهرات ذعرت

ورأيت الرعب يغشى قلبها

فترفق واتئد واعزف لها

من رقيق اللحن وامسح رعبها

ربما نامت على مهد الأسى

وبكت مستصرخات ربها

أيها الشاعر كم من زهرة

عوقبت لم تدر يوماً ذنبها!

إبراهيم ناجي

كم يدهشنا أن يقترب منا أحدهم مبتسما ويؤكد أنه يعرفنا بالتأكيد؛ وقد يصدق ظنه وقد يخيب عندما نستدعي نقاط الالتقاء والاختلاف بيننا، لكن يبقى هذا الاقتراب وهذه المعرفة أو عدمها مؤشرا على أن ملامحنا أو ابتسامتنا وإنسانيتنا عنت للآخر شيئا مهما غالبا، ولو كان خلافا مسحه الزمن وأبقى ملامحنا في ذاكرته!

بينما تمر الأيام، تغتال السنون ملامحنا التي ما زلنا نذكرها في مقابل ملامح جديدة نستنكرها أو لا ندرك متى أصبحنا عليها، لكن هناك ملامح أخرى أهم وبصمات لا تزول ولا تتغير، بل تنمو وتزدهر بمرور الزمن وهي ملامح شخصياتنا، فحيث ينعدم الوعي ببصمات النفس نستطيع أن نقيس بصمات الأصابع ببراعة! وهذا ربما يفسر لنا تقطع الصلات بين الناس بعد طول ود، أو في لحظة صدق تكشف جانبا من الآخرين كان مغيبا عنا قبلها فيدفع بنا ما عرفنا بعيدا عن بعضنا كما تدفع الأمواج العاتية المراكب الصغيرة في البحر الخضم.

لطالما تساءلت: كيف يدرك الأطفال بحدسهم الإنسان اللطيف المحب لهم النقي ويتجهون إليه مباشرة مبتسمين أو مداعبين، وينفرون ممن عداه ولو قدم لهم قطع الحلوى؟!

هل لأنهم يحملون بوصلة لم تلوثها مصالح الحياة أو تتأثر بما يخبرنا الآخرون؟!

قبل ما يزيد على عام، تعرضت فنانة شهيرة لهجوم غير مبرر أخذ طابعا ثقافيا غريبا، وتمثل هذا الهجوم في حسابات تواصل اجتماعي تهاجمها في حسابها الخاص، وتسخر منها وغالبا يوم عرض البرنامج الذي تظهر فيه، واستمر الأمر كل جمعة، ولكنه توقف بعد تكوين جيش من المعجبين من الجنسين يهاجمون المهاجم ويغلقون حسابه أو يفعلون أكثر ولسان الحال يقول ما قال المتنبي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم

ولولا أن سخرية الساخرين زادت عن حدها، ومالت للعنصرية للمت الجيش وصاحبته، لكن حين نتأمل كمية الهجوم اللفظي أو الشتم أو التعريض أو حتى الغضب الذي يتزايد في حياتنا ويزدهر في بعض وسائل التواصل نتذكر ما قال (الدكتور فل) في برنامجه الشهير مرة ما معناه أنه لا يستطيع الحكم على علاقة زواج بالاستمرار أو عدمه، ولكنّ لديه مؤشرا مهما يعني نهاية العلاقة ولو استمرت شكليا وهو التراشق اللفظي!

هذا القول يمكن تمثله على الأسرة الثقافية وأعني بها كتابنا وصحفيينا والمهتمين بالفكر وأيضا على عامة الناس مثلي الذين يعبرون عن رأيهم، لكنّ سؤالا يفرض نفسه وهو: هل نحن أمام تصحيح ثقافي أم أننا نواجه قطيعة وانفصالا؟

بدأنا في مواقع التواصل وخاصة "تويتر" نتواجه أخلاقيا بصورة مثالية ممتازة أقرب لعبارات المجاملة في مقالات المنتديات طيبة الذكر والتي تفيض أدبا وحبا ورقة ونسخا لطيب الكلام ولصقا، واستمر بعضنا فهذه أخلاقهم الحقيقية، حين عجز من تصنع المثالية، وأخذ يخوض في مستنقعات كثيرة أولها سوء الظن ولا حد لها تنتهي إليه.

ثارت جيوش من المهاجمين لفكرة والمدافعين عن فكرة أخرى، وغاب صوت العقل الذي يحضر خافتا إن حضر!

وما يحدث غيض من فيض ما ينتجه لنا التواصل الذي يبدو أننا لم ندرك خطورته وأبعاده ومزاياه بعد، فبدأ يقدم الكثير من الإيجابيات، فيزار مريض، أو يتكفل أحدهم بعلاجه، أما السلبيات فمقالة أو تغريدة أو صورة قد تستفز أحدهم فيثور ويثير مشاعر ملايين الناس معه، ويحكم على حياة إنسان بسببها فيأثم عامل مخلص لا ذنب له إلا أن الصورة لم تعجبهم، ففسرت حسب ما تمليه عليهم ضلالات نفوسهم!

كما قال أبوفراس مستنكرا:

أيضحك مأسور وتبكي طليقة

ويسكت محزون ويندب سالي

وفي المقابل، بدأنا نعي تعقيد تركيبتنا، ولنعترف بحقيقة مهمة، وهي أننا تسترنا وراء مظهر جميل أخفى حقيقتنا حتى عن أنفسنا، فصرنا نصنف أنفسنا بما صنف من قبلنا به أنفسهم من خيرية، ونبالغ في ادعاء المثالية الزائفة ونسلبها من الآخرين، ببساطة فكل ما عدانا أو جماعتنا أو فكرنا شرير وسيئ، وكل ما يصدر منا خير ومقبول.

والحقيقة أن مثاليتنا من زجاج، تتهاوى من أول حجر يرمى إلينا، فالعصمة لا تكون إلا لنبي!

الخطأ وارد ومقبول، والتصحيح والاعتذار مطلوب، بل والعقاب على الخطأ، لكن لنتثبت من أنه خطأ قبل صدور الحكم الصارم.

أخيرا، لنعترف أننا بتنا أفضل، وأن تواصلنا أزال غشاوة عن أعين كثيرة طال رمدها، وقاوم أكاذيب طال تصديقها ولم يعد وصف أحدهم بالفاشية أو الورع مدعاة للتصديق، كما أصبحنا ندافع عن مخالفينا وبدأ صوت العقل يعلو وصوت الجهل وادعاء الفضيلة يخفت وانتكس المنافق أو الشاتم وارتكس.