لعله من نافلة القول وتحصيل الحاصل أن يقال إن التلفزيون السعودي لا يزال بعيدا جدا عن التطور، ورغم تطور تلفزيونات العالم في ظل الثورة التقنية والمعلوماتية الرهيبة إلا أنها لم تمر من هنا، وحتى بعد أن أصبح التلفزيون هيئة لحاجة الدولة لتطوير أدواتها وأذرعها الإعلامية إلا أن الحال لم يتغير، وذلك ما يعني أن الفكرة والنظام والتنظيم يقتضي المواكبة والتطوير إلا أن القائمين على الأمر لم يحسنوا تطوير هذه الواجهة الإعلامية، ولم يستوعبوا مقاصد وأهداف الإعلام الجديد والتحولات الفضائية التي تجعل الإعلام أحد أهم وأبرز أسلحة الدول وترجمانها التنموي والاجتماعي والثقافي والحضاري.
منذ ميلاد أجيالنا الحالية ونحن نقف على المشاهد والأفكار البرامجية ذاتها، وذلك يجعل حصيلتنا التلفزيونية صفرا كبيرا أو بعبارة أخرى نتفق فيها مع الأستاذ محمد عابس أن "قنواتنا التلفزيونية أي كلام" وهي ذات عنوان مقال له يقدم تشريحا دقيقا لمجريات التجمد التنظيمي والإداري والفني والتقني لتلفزيوننا العريق، ولا أريد الذهاب بعيدا إلى مصطلح التخلف وإنما تكفي موافقتي لما ذهب إليه عابس للاستدلال على حجم البطء المنهجي في تطوير التلفزيون والنهوض به رغم أن تحويله إلى هيئة يفترض أن ينتقل به تلقائيا إلى حالة مؤسسية أكثر استيعابا لخدمة قضايانا الإعلامية والثقافية والاجتماعية، ولكن يبدو أن هناك خلطا ولبسا منهجيا في التعاطي مع مقتضيات عمله كهيئة وليس مؤسسة.
لم تبارح قنوات التلفزيون السعودي فكرة (غصب1) و(غصب2) و(غصب3)، بحسب ما ذكر عابس، بل زاد الطين بلة أن كل إضافة متخصصة أصبحت تضاف رقميا إلى لفظة (غصب)، وهكذا ترتفع الأرقام ونحسبها في حالة أشبه بالصعود إلى الهاوية، وبالتالي مع انفتاح الفضاء وتعدد القنوات تكون نتيجة اختبار المشاهدة المؤكدة التي تحصدها إدارة الهيئة "لم يشاهدكم أحد" وتبرير ذلك، والذي نتفق فيه أيضا مع عابس، ضعف تلك القنوات ونمطيتها وبيروقراطيتها وابتعادها المخيف عن مجال المنافسة مع القنوات الأخرى.
والسؤال من واقع هذا الحصاد الفاجع.. لماذا ولدت هيئة الإذاعة والتلفزيون بشهادة وفاة؟ والإجابة ترتكز، بحسب رؤيتنا التي يلخصها عابس في استمرار بعض العقليات الإدارية القديمة نفسها بالأسماء نفسها، حيث لم تستوعب العمل وفقا لنظام هيئة وليس مؤسسة، وكان بالإمكان نقل التقنية الإدارية للآخرين والإفادة منها، وذلك ليس عيبا، فالعمل بحسب نظام هيئة الإذاعة البريطانية على سبيل المثال واستشفاف نظامها الإعلامي وتوطينه كان يمكنه أن يخدم هؤلاء المسؤولين بدلا من أن يرتبكوا ويسقطوا في فخ الجمود وإعادة سيناريو إدارة التلفزيون بالعقلية القديمة ذاتها التي تجافي التطور.
نتفق تماما مع عابس وهو يلاحظ أن قنواتنا متخصصة بالاسم فقط، فالقناة الثقافية تعرض مواد رياضية واقتصادية وأخبارا محلية، والاقتصادية تعرض برامج متداخلة مع غيرها والرياضية تعرض مواد درامية وفنية، ويمكن قول الكلام نفسه على بقية القنوات، والتفسير المنطقي أننا نعاني بهذا السياق "أنيميا" برامجية، تنتقل بنا مع عابس إلى توصيف الخلل التلفزيوني المزمن بحيث يشمل تباين الاهتمام بين القنوات ماليا وإداريا، وعدم وجود مهرجان سنوي يدعم التنافس بين القنوات ومنسوبيها ويحفز على الابتكار والتجديد، وعدم وجود معهد للتدريب يستفيد منه منسوبو القنوات لتطوير قدراتهم والاستفادة من الخبرات العالمية وتوطين التقنية، واستمرار أسلوب العطايا "الشرهات" من خلال التعاميد لأسباب غير فنية، والتركيز في التطوير على الشكل فقط من خلال الشارات والديكورات والشعارات، وضعف دعم المذيعين الأكفاء وقصر دورهم في الغالب على قراءة النشرات والمواجز والاستعانة بالممثلين وبعض نجوم الورق عديمي الخبرة في تقديم البرامج، وتسرب الكفاءات المختلفة لضعف الحوافز المادية والمعنوية.
الإيقاع الحالي لا يسمح بتطور وتطوير التلفزيون، والعمل وفقا لـ"هيئة" يختلف عن الفكرة الإدارية والتنظيمية العتيدة كـ"مؤسسة"، وكما قال عابس فإن التطور السريع في وسائل الإعلام لن ينتظر أحدا ولن يذرف دمعة واحدة على المتكاسلين والجهلة والأدعياء، ومن حقنا أن نحصل على تلفزيون أفضل من الحالي في ظل هذا الوضع الإداري غير المتطور، الذي لا يسمع إلا صوته لأن كثيرين تناولوا الأداء السلبي والمتراجع وغير المواكب ولكن أصبح لسان الحال:
لقد أسمعت لو ناديت حيا... ولكن لا حياة لمن تنادي