عندما بلغني خبر هروب الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي من بلاده كنت حينها في القطار متنقلا من جمهورية "سلوفاكيا" متجها نحو جارتها جمهورية "التشيك"، و قد انتبهت لسخرية القدر لحظتها حيث كنت أمر في منطقة جغرافية كانت في الماضي حدود دولتين مستقلتين ثم اتحدتا ثم انفصلتا مجددا، وهو الصوت ذاته الذي كنا قد بدأنا نسمعه مع هروب بن علي والخوف من تفتت تونس لدويلات، وهو ما لم يحدث لكنه حدث فعلا في السودان، وربما له أرضية خصبة وقد يحدث في ليبيا وسورية.
الثورات العربية كما تسمى أتت كما يروج له من خلال تحقيق الكرامة للمواطن ومحاربة فساد المتنفذينن وإعادة حكم البلاد لأبنائه، وتحقيق العدالة والمساواة والحكم الديمقراطي، وهي كلها بدون شك أهداف نبيلة يتمناها كل مواطن يعيش على هذه المعمورة، ولكن يبقى أن الثمن الذي يدفعه الوطن والمواطن لتحقيق ذلك هو مثار الخلاف بين متحمس ومتحفظ، فهناك من يطالب أن يتحمل العربي كما تحمل الفرنسي في تجربته التي استمرت لـ200 عام، عانى ما عاناه خلالها، وهناك من يرى أن أي ثورة لم تتعلم من التجربة الصينية ما هي إلا عبثية سياسية و حرب أهلية مفتوحة.
انظر لحال دول ما يسمى الربيع العربي الآن وقارنها بما كانت عليه قبل الثورة، ستجد أن فكرة تحدي السلطة أصبحت واقعا ملموسا، ولكن تلك السلطة التي كانت تسجن وتعتقل في الماضي أصبحت اليوم تجز الرؤوس وتقتل باسم الدين، فاستبدلت تلك الدول دعاة الاشتراكية و الأممية بدعاة الداعشية والقاعدية.
عندما وصلت التشيك مساء تلك الليلة في مدينة حدودية اسمها (برنو) شاءت الأقدار أن أمر أمام مجموعة من الشباب التوانسة وهم يحتفلون بالأخبار القادمة من بلادهم أمام مطعمهم الصغير، فأحدهم كان يكّبر بصوت جهور وبيده قنينة زجاجية مشكوك في محتواها، والآخر ملتح يطلق الكلمات النابية في حق بن علي وجماعته، استوقفني المشهد وقررت شراء ساندويتش من محلهم لعلي أستمع لمنطق حديثهم الثوري، طلبت "شاورما" متحدثا بالإنجليزية فأتتني شطيرة يكاد اللحم فيها لا يظهر من قلته والسعر مختلف ويزيد عما يظهر في لوحة الأسعار، فقلت بيني وبين نفسي إن الغش إن استوطن في عقل التاجر الحر فكيف له أن لا يستوطن في عقل الثائر الحر، ودعوت الله أن لا يحكم العرب مثل هؤلاء.