في كل ركن من فناء منزلها الطين مزهرية ريحان، لا تقل نضارة عنها، تسقيها بقطر السماء المتدفق من السرب، والمختلط بلون الطين، تفرح عندما تشاهد "حماحمه" بدأت تتكون؛ حتى تمكن من صناعة "مكعس" تتزين به كلما دلفت الشمس من خلف الجبل، ورأت مقاسمها حياتها وشريكها في البساطة وراحة البال وهو يدنو من منزله.

اعتادت أن تجنح إلى الاستقرار في منزلها بصحبة "دبيتها" وبقرتها وصغارها الحالمين للاقتراب من مباهج الحياة. لا يكدر صفوها شيء، ولا تحمل هَمّ ما هو خارج أسوار المنزل، قانعة بما يقسم الله لزوجها كل ذات سوق، وما يسد أفواه صغارها، تسير بها الحياة على وتيرة هادئة، اختار الله لها أن تترمل، وتتكبد السفر في لجة الأيام المجهولة، بصحبة خمسة صغار كبيرهم لم يقترب من سن التمييز، وكعادة نساء عسير فهي أبية كادحة ملتصقة بالأرض، لا تعفر يدها بمال جاء من غير تعب، ولأنها لا تملك خيارات عمل تقيها شح السؤال، حزمت أمرها على أن تبتاع ريحانها على اللاتي مازلن يرفلن في كنف الاستقرار. تسقيه كل مساء ليرتوي وتقطفه صباحا وهو بكامل نضارته. تقصد السيارة الوحيدة التي تأخذ الجميع إلى السوق، تبتاع كل ما لديها، وتشتري بقيمته ما يلزمها من مستلزمات ضرورية، تسير وتعود وهي تشعر بالسعادة، والجميع يسأل عنها، وإن غابت سئل عنها وعن أطفالها، وإن أوجس بها مكروه أو "بايرة" فزع الجميع لها.

تسير بها الأيام وتتغير الحياة، يكبر الصغار وتتبدل أحوالهم من عسر إلى يسر وخير، ولكن مازالت متشبثة بالسوق وصويحباتها اللاتي عاصرن معها حقبة النقاء وسماحة الحياة، قررن أن يتخذن هذا العمل مهنة تكفيهن الخنوع للعجز، والانسياق وراء وصب السنين وتراكماتها، لكن الذي يعكر صفو بائعة الريحان و"المتكعسة" به، أن إلى جوارها في سوق الثلاثاء فتاة من شرق آسيا، ترتدي نقابا وتفتعل اللجهة العسيرية، لا تحسن نطق أسماء السلع ولا سبل التعامل، مما يصور مفهوما آخرا للزائر، فيتشرب ثقافة مغلوطة عن عسير المكان واللغة والحياة.

مما عجل بهرم ثقافة بائعة الريحان وذبول أغصان ريحانها، إذ تبعثرت حنطتها في قاع من التزييف والتبديل بالمستورد حتى في صناعة الكلمة، فأي دافع جميل يحرض بائعة الريحان على الغدو وهي متأبطة "كمانتها" والرواح وقد امتلأ "قفها". "برشوم وحماط"، وقلبها غبطة وسرورا وانتشاء.

أي دافع وهي ترى الأسوار أحاطت بحضن السوق وحولته إلى صالة عروض مليئة بالألوان المبهرجة الخالية من معنى الحياة، أي حياة غادرتِ يا بائعة الريحان لترميك بين الصناديق الحديدية التي اتخذت من قوتك أجرا لها؟

عودي بربك، ابحثي عن "فية عرعرة أو طلحة" لتصنعي لك "مكعس وطرقي" ورزقك على رب الطير.