انشغل العالم بدعوة القس المتطرف تيري جونز إلى حرق المصحف الشريف في الذكرى التاسعة لأحداث 11/9 وآخر ما قرأته أنه تراجع عن دعوته بعد الرجاء الذي وجهه بعض المسؤولين في الجيش الأمريكي بعدم القيام بأي أعمال استفزازية من شأنها أن تضرب المصالح الأمريكية، خصوصا بعد التهديدات التي أطلقتها الجماعات الإسلامية المسلحة وعلى رأسها القاعدة وطالبان، وهكذا فإن الجنون لا يفلّّه إلا الجنون!

قرأت في موقع التلفزيون الألماني الذي يبث بالعربية أن القس كان قد أسس كنيسة في كولونيا بألمانيا منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وأشارت الكنيسة إلى أن علاقتها بتيري جونز انتهت عام 2008 بعد رصدها لتلاعبات في الكشوف المالية للكنيسة، وكانت محكمة ألمانية قد حكمت على تيري جونز عام 2002 بغرامة مقدارها 3000 يورو بسبب حمله شهادة دكتوراه مزيفة. كما قرأت في مكان آخر أن والد تيري جونز كان مديراً تنفيذياً لشركة "آمي ويلمينغتون صهيون للإسكان والتنمية"، وأنه قد تحالف مع حاخام متطرف لترويج كتابه العنصري (الإسلام من الشيطان).

أفضل رد على هذا القس المستهتر جاء على لسان رئيسة المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، شارلوت كنوبلوخ، في بيان صحفي صدر يوم الأربعاء الماضي أنها تعتبر فكرة جونز "بغيضة ومروعة"، وذكرها بعملية إحراق الأدب "غير الألماني" التي نظمها الحزب النازي عام 1933 والتي أنذرت بالمحرقة خلال الحرب العالمية الثانية. وأضافت كنوبلوخ "حيثما يحرق الناس الكتب.. يحرقون الأشخاص في النهاية"، في اقتباس لكاتب ألماني من القرن التاسع عشر.

لكن من ألمانيا أيضا ورد خبر سيئ ألا وهو تكريم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للرسام الدنماركي صاحب الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، تقديرا لشجاعته، حسب رأي ميركل، وهي التي لا تستطيع أن تنبس بكلمة واحدة شجاعة ضد ما يفعله التمييز الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، بل هي نفسها التي بدأت زيارتها إلى دولة إسرائيل باعتذار مما فعله الألمان النازيين ضد اليهود، وهكذا فإن تصرفها لا يبتعد كثيرا عن تصرف ملكة بريطانيا التي كرمت سلمان رشدي صاحب كتاب (آيات شيطانية) بينما حكومتها نفسها هي التي منحت فلسطين للشعب اليهودي من خلال وعد بلفور المشؤوم!

أنا حالياً أقيم في بلد أوروبي، ومن السهولة بمكان أن يستنتج المرء الذي يقيم بين الأوروبيين، أن كنائسهم ليست سوى تراث يفتخرون ببقائه مع أنه جسد دون روح، فأنت تسمع الأجراس كل يوم لكنك لا تسمع وقع الخطى لتلبية ندائها، لذلك فإن الإساءة للدين لا تعني للأوروبي العادي الشيء الكثير، لكن السياسي - مثل ميركل - يجب أن يكون لديه نظرة أبعد فالإساءة للدين تعني الإساءة للشعوب التي تنظر إلى ذلك الدين بعين التقديس، وهذا ما تنبه إليه وزير الدفاع الأمريكي فطالب بمنع القس المتهور عن المضي بوقاحته إلى النهاية.

الأديان جاءت من أجل السلام، وأوروبا تخلت عن دينها عندما أصبح الاختلاف الديني سببا للحروب بين البشر، والحقيقة هي أن السياسة تستغل الدين من أجل مصالحها، ودين الإسلام هو الدين الأقرب إلى الفطرة البشرية لكن المسلمين - للأسف - غالبا ما يقدمون نماذج غير صالحة للاقتداء عالميا، ويكفي أن نضرب مثلا بعمرة رمضان والتي يجتمع فيها أكثر من مليون شخص في نفس اليوم، ولولا الجهود التي تبذلها الجهات المسؤولة عن النظافة في تخليص الحرم من أوساخ المعتمرين والمصلين لاختفت معالم المكان المقدس, وإذا ما تذكرنا قول الله تعالى:(ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) فإن السؤال المطروح هنا: إذا كان بعض المسلمين يتعاملون مع أقدس البقاع الإسلامية بهذا الشكل من اللامبالاة وبطرح الفضلات فكيف هي حياتهم في منازلهم؟ إضافة إلى سؤال آخر: هل يحق لهؤلاء النفر الذين لا يحملون لأشرف بقعة في الأرض الاحترام اللائق أن يدافعوا عن هذا الدين وهم أكثر من يشوّهونه؟!

الأديان السماوية كلها قبل أن تشوّه بفعل معتنقيها كانت في خدمة البشرية، أما وقد تخلت أوروبا عن إيمانها، واستغلت أمريكا دينها من أجل السياسة، وشوّه المسلمون معتقداتهم بالأيديولوجيا تارة وبالإهمال تارة، فإن حال هذه الأديان مثل حال صاحب الصورة في قصة الرسام الذي أراد رسم صورة تعبر عن البراءة فرأى في وجه طفل جميل ووديع غايته فرسم وجه الطفل وأطلق على اللوحة اسم "البراءة". بعد نجاح لوحته رغب الرسام في رسم لوحة أخرى تعبر عن الذنب وكل الشرور في وجه إنسان، بحث في السجون وأوكار المجرمين عن وجه إنسان يعبر عن الذنب والشر لعدة سنوات لكنه لم يجد ضالته، وبعد عشرات السنين صادف أن رأى وجه رجل مفزع وكأنه وحش أو شيطان.. اقترب منه خائفا وعرض عليه مبلغا مجزيا من المال مقابل رسم صورته, قبل الرجل عرض الرسام المغري وسار معه إلى بيته وهناك جلس على مقعد وبدأ الرسام يرسم والرجل ثابت في مكانه, وبعد أن انتهى الرسام تحرك الرجل من موضعه وسأل الرسام: ما اسم هذه اللوحة التي رسمت فيها وجهي؟ أجاب الرسام: سأطلق عليها اسم "الذنب".. التفت الرجل فرأى لوحة "البراءة" فجأة تغيرت ملامح وجه الذنوب والخطايا ودمعت عيناه من ردة فعل مشاهدة الصورة الجميلة.. سأله الرسام: ما أبكاك يا رجل؟ قال: هل تذكر صاحب وجه هذا الطفل البريء؟ دقق في ملامح وجهي المشوه.. أنا يا سيدي هو نفسه ذاك الطفل الوديع الذي ناديته ورسمت من ملامح وجهه لوحة "البراءة"!