..ولمحت طوق الياسمين
في الأرض.. مكتوم الأنين
كالجثة البيضاء
تدفعه جموع الراقصين
ويهم فارسك الجميل بأخذه
فتمانعين وتقهقهين
لا شيء يستدعي انحناْك
...ذاك طوق الياسمين..
(نزار قباني).
هل نحن أمة شاعرة؟
سؤال يقفز إلى الذهن عندما نقرأ واقعنا المعاش اليوم وعبر تاريخنا، ففي خطاباتنا السياسية والدينية تصورات لواقع غير موجود على الأرض، يبكي الأندلس وكأنها سقطت اليوم، ويلعن أعداء يعرف صفاتهم ويجهل أسماءهم يفسدون عليه حياته وغير ذاك كثير.
هذا الواقع يتم التعاطي معه وتقديسه أو تجريمه والتصارع عليه، وبين الواقع المعاش والمتوهم قنطرة لا نجتازها أبدا؛ فبينما نؤمن كبقية البشر بحقنا في الدفاع عما فقدناه من ممتلكاتنا ومقدساتنا تتساقط القنابل لتدمر مدنا وتخلي مدنا أخرى من أهلها ويموت ضحايا وتتناثر على عروبتنا وإسلامنا الشظايا!
ونظن فيما نراه أنه فيما يرى النائم وليس بالحقيقة، وأن ما نسمع هناك ما هو أصدق وأجدر منه بالسمع وما نعيشه من واقع عربي مرّ وإسلامي حزين (سحابة صيف عن قليل تقشع)!
نحن في ثقافتنا نحتفي بالشعر كثيرا ونطرب لجمال الصورة وقد ذكر نزار في كتابه (ما هو الشعر؟) أن العرب الأمة الوحيدة التي تجتمع لاستماع الشعر في أمسيات! فتصوروا ربما يكون هذا هو السر الذي جعلنا زمنا نؤمن بأن خطب الزعماء هي واقعنا لعقود، بل وأحيانا يختلط علينا الشعر والنثر حين ندهش لصورة خيالية خلابة فنظن المنثور منظوما وربما كان هذا سر وجعنا!
ومن منتصف القرن الماضي بحروبه العالمية وغيرها، وبعد صراع العرب مع الاستعمار لسنوات طالت وأدمت جسدنا، زال الاستعمار والخلافة العثمانية وأفقنا على إرث من الجهل والفرقة والتناحر حملناه وحملناه حاضرنا ومستقبلنا وانقسمنا هشيما تذروه الرياح يمنة ويسرة.
فمنّا من آمن بمشروع الإخوان الحالم في وقته مقتنعا بأن الإسلام هو الحل، ومنّا من طارد جياد الناصرية والقومية العربية التي أطلقها جمال ويأبى بعض فرسانها الترجل!
ما الخيط بين المشروعين؟ كلاهما انطلقا من مصر ولا عجب، فمصر وحدها كانت ورودها تتفتح وبذور غيرها لم تزرع بعد!
لست هنا أنظر لكني أتأمل بعين ما تزال تسأل لماذا انجذبنا لمشاريع متناقضة واستمتنا في الدفاع عنها رغم أننا اليوم نذوق مرارة فشلها فلم تفلح القوميات ولا تسييس الإسلام في بلاد العرب.
سقط عقد الياسمين وسارت فوقه الأقدام والدبابات ورقص أصحاب المصالح على أنغام مصالحهم العذبة!
وما زال المروجون لهذا التيار أو ذاك يعلون من قيمة الأفكار الحالمة وهم يسيرون على جثث الضحايا مدعين أن الأوطان ستكون بخير.
حين بدأت إرهاصات الربيع العربي فرحنا بمطالب الشعوب السلمية، واستبشرنا بعدالتها إلا أن تلك المطالب لم تكتب بطريقة شاعرية، بل واضحة ومبسطة فعجز قائل "من أنتم"؟ عن معرفة كاتبها، كما عجز حكام الخطب العصماء والابتسامات الصفراء عن تقبلها، ووعدت الشعوب خيرا ونكلت شرا.
لنعد إلى الشعر كم تواضعت أحلامنا فأصبحنا نتمنى هدنة في البلدان العربية والقبول بالتفاوض في ذاك، واختلط الحابل بالنابل فلم نعد نعرف من يحارب في العراق ولا في الشام .. ما زال الشعر ديوان العرب فنظن أن صورة رأس فصل عن جسده ستشفي وتكفي، ونظن الشحم فيمن شحمه ورم والواقع أننا لسنا بحاجة لشحم أو ورم!
وفي الحروب يتأذى الضعفاء والمسالمون، أكثر مما يتأذى الجبناء المعتدون، وفي الأحداث الجارية بقيت النساء في ذيل قائمة الاهتمام، فلا ندري أهن سبايا حرب أو رقيق حرية؟ كما حدث لامرأة أجمع على أذاها شرذمة من عديمي الإنسانية.
وإن كانت معاناة النساء في الحروب مرة، فإن صور الأطفال تخدش أحلامنا الشاعرة بين طفل توسد حجرا وآخر لا يقوى على حمل نفسه يحمل أخاه الأصغر كسيرا.
ربما لو عدت إلى سؤال البداية أجد أننا بالفعل نميل لتصوراتنا الشاعرية وندافع عنها ونستعدي بعضنا على بعضنا بحجج خرقاء، يسقط فيها كل جدار يريد أن ينهد ولم نجد من يقيمه، ولكن تصوراتنا لم تعد ذات لغة جمالية، ولم تعد صالحة لبناء الأوطان، ولن تجلب لنا أوطانا أكثر أمنا لأنها ببساطة متشبثة برؤى لا نعلم مدى خيرها من شرها، فلن تبني هذه الأوهام مسجدا تهدّم ولن تحيي بلدا مات أهله ولن تعيد شرف امرأة أهدر ولا زوج أرملة ولا ولد أم مكلومة.
على مستوى الحوار لو عدنا إلى بعضنا نتساءل علنا نتخلص من نظرتنا الموهومة بمصالح غيرنا، وعل الحياة ترتد للواقع، خاصة واقعنا الاجتماعي، فنبني عقولنا ونتوقف عن التحريض، فلا يصح أن يقال اليوم: لنا في كل يومٍ منْ معدٍّ
سِبابٌ، أوْ قِتَالٌ، أوْ هِجاءُ