حصدت حكومة الوفاق "الوطني" اليمنية مذ تشكيلها وفقاً للمبادرة الخليجية أعلى معدلات الإخفاق، وغدت في نظر المجتمع اليمني مثالاً للتواكل والعجز، ومدعاة إجماع بعدم أهليتها لإدارة مهام المرحلة الانتقالية التي ما كان على قوى الصراع تجاوز أهدافها المرحلية، وسقوفها الزمنية، لولا ارتخاء الحبل وانتقاله من الأشقاء المعنيين بالمبادرة الخليجية إلى مبتدرين مستعربين وعجم متعددي الرغائب والرواسب والمرجعيات.
الإجماع على فشل الحكومة بلغ ذروته بتوافق مكوناتها الحزبية تحت سقف البرلمان على التغيير بحكومة كفاءات..
بيد أن أسباباً لم يكشف النقاب عنها أدت بمتخذ القرار للعدول عن التغيير الكلي إلى تعديل جزئي طال خمس حقائب وزارية واستحدث مناصب لم تكن قائمة، لكنه مرّ على مواقع بالغة الحساسية فعالج خللها (المسكوت عنه) ليعقبه جدل اجتماعي وسياسي تركز جله على ظاهر الأمر دون البحث في جوهره.
التعديل بعلاته وكثرة المآخذ عليه، أعطى مفعوله الموضعي على أعراض الاحتقان الشعبي، ولم يعالج أصل الداء؛ إذ ليس منالاً سهلاً تحقيق التطلعات المشروعة، أو تقديم المثال المطالب به من خلال إفرازات الصراع نفسها؛ أي أن إشكالية حكومة الوفاق جزء من الإشكال الرئيس الذي اعتمد التسوية على أرضية الصراع!
وطالما كان التغيير الحكومي مرتهناً لذات القواعد التي رسمتها المبادرة الخليجية، فإن توافق الأحزاب الماضوية على إقراره، عكس رغباتها في الإفلات من السخط الجماهيري وإحالة التبعات على ذمة رئيس الجمهورية.. ولا ريب أن شيئاً من نتائج هذا الكيد قد حدث فعلاً ليغدو الرئيس هادي قاسماً مشتركاً لاستهداف قوى الصراع رغم ثأراتها المتبادلة وتناقضاتها الأيدلوجية والمرحلية المختلفة.
فما الذي غفلته القراءات التحليلية من جوانب إيجابية انطوت عليها تلك القرارات وبالأخص منها تحرير الرئاسة اليمنية من قبضة الإخوان المسلمين وإعادتها إلى حيث يكون دور الوظائف السيادية العليا لمؤسسات الدولة.
في ظروف اليمن الراهنة فإن حساسية المرحلة الانتقالية تملي على رئيس الدولة الانحياز للمصلحة الوطنية العليا والحياد الكامل في إدارة صراعات الشركاء المتشاكسين، ولهذا كان اختياره شخصية أكاديمية (تكنوقراط) غير ذات صلة بلوثات الماضي لإدارة مكتب رئاسة الجمهورية رسالة بالغة الدلالة على نفاذ صبر هادي من محاولات السطو على محيطه الاستراتيجي وتأكيد قدرته على تقديم البدائل المقنعة لقوى الصراع بما فيها المستفيدون من محاولات السطو تلك.
أما على صعيد التعديل الحكومي فلم تقتصر إرادة متخذ القرار على مواجهة الفساد الفاضح في أداء المالية العامة والكهرباء لكنها رفعت الغطاء عن فضيحة إخوانية لا مثيل لها في تاريخ الوفاقات السياسية على امتداد خارطة الوطن العربي والعالم.. إذ لم يسبق ظهور (سوق سوداء) في محاصصة وفاقية تحمل طابع الشراكة الحزبية بتشكيل حكومة مشهود عليها إقليمياً ودولياً عدا الحالة اليمنية التي ابتدعت هذا اللون من الختل البائس.
الإخوان دخلوا التسوية بمسمى: (التجمع اليمني للإصلاح)، وصادروا إلى جانب حصتهم المعلنة ثلاث حقائب وزارية قدرت عائداتها من صفقات الفساد بنحو 2.5 مليار دولار جناها الإخوان من تلك الحقائب الحائزة على أعلى معدلات السخط الشعبي من حكومة الوفاق.
المثير للدهشة نفي الإخوان صلتهم بتلك الحقائب، وإنكار مسؤوليتهم عن اختيار وزراء (المالية، الكهرباء، الإعلام)، لكن قرار التعديل الحكومي عرى سياسات السوق السوداء، وقدم الدليل القطعي على الطرف المستفيد من تلك السوق خلال الفترة الماضية بكونه الطرف المعني بشغل هذه الحقائب – مجدداً – بممثلين من قياداته البارزة تضمنها القرار الرئاسي، باستثناء وزارة المالية المسندة حقيبتها لشخصية إدارية مجربة وبمعايير سياسية – تكنوقراط – يعود تقديرها لرئيس الجمهورية شأن اختياره وزير الخارجية الجديد.
قليلون جداً من أبناء اليمن والغيورين على مستقبله من يفترضون وضعاً مثالياً وقرارات رئاسية تنقل البلاد – دفعة واحدة – إلى واحات استقرار وتضع أقدامها على ناصية الرفاه والتقدم، بينما يدرك الكثيرون تعقيدات الواقع وحجم وماهية الحطام الماثل أمام رئيس تسلم دولة على الورق وارتضاه الشعب لهندسة أهرام من الأحلام المؤجلة بينما تحاصره حقول ممتدة من معاول الهدم وقوى التطرف والخراب، وفي صدارتها جماعات السلاح والميليشيات الإخوانية والحوثية ومقاولي الحروب من شيوخ القبائل في مناطق شمال الشمال.
الرئيس هادي يبذل وسعه، فتخذله الشراكات الآثمة بانقساماتها في إدارة الشأن العام، لكنه يلوذ بالحكمة لتفادي كوارث الضعف، ورفد مقود الوفاق الحكومي بنائبي رئيس وزراء لا تناكر حول قدراتهما ووسطيتهما ونضج رؤيتهما، وفي الوقت نفسه، لا لبس يحول دون استيعاب المغزى السياسي من استحداث هذين الموقعين وتحويل رئاسة الحكومة إلى هيئة مؤسسية تحكمها روح تضامنية ومسؤولية واضحة لطرفي الصراع الرئيسين عن الأداء الحكومي بمنحهما آخر الفرص لتصويب المسار المعوَج، والتغلب على التناقضات السابقة التي طالما عزاها رئيس الوزراء (المستقل) إلى توافق الأحزاب على اختيار الوزراء دون علمه.
خلاصة القول: تعاقب المعضلات وثقلها على كاهل اليمن، وإذا قدر لهذه الأوضاع أن تزداد سوءاً، فليس لأن الشعب اليمني وقيادته ممثلة بالرئيس عبدربه منصور هادي اختاروا الكوارث هوية مستدامة، ولكن لأن أشقاء اليمن لا يملون الفرجة، ولا وقت لديهم لتدبر المفاجآت الناجمة عن الاستحمام في المياه الساخنة وغض النظر عن اعتمالات البركان!
الغرباء وحدهم يتداولون تطورات الأوضاع في هذا البلد، ويضعون إحداثيات الملهاة، ويُدوّلون بعض ملفاتها ويحيلون اليمن إلى "تيوب" وكلما تعطلت إطارات عربة (همر) أميركية في العراق أو ليبيا أو أفغانستان، بحثوا عن الـ"تيوب" اليمني لترقيعها، وكلما هدأت مناحة في (قم)، ارتفعت وتيرة الصراخ بشعار: (الموت لأميركا.. الموت لليهود)، صحبة المئات من ضحايا المشروع الخميني في جبال اليمن!