على اعتبار أن القس الأمريكي تيري جونز نفّذ تهديده وقام بإحراق المصاحف في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر؛ ففي واقع الأمر لن يلحق بالقرآن الكريم ولا بالمسلمين أي ضرر، فالأذى الوحيد الذي سينتج عن المشهد أذى ثقافي وحضاري، ربما ستتمثل إيجابيته في أنه سيطرح على المحك تلك المقارنات التي انشغلنا بها جميعا عن التدين في الكنيسة وموقفه الذي كنا نراه مثالا للتسامح والابتعاد عن الصراعات، بل ستحول الحادث إلى مبرر لحرج واسع لشخصية التدين المسيحي، الذي ظل بعيدا عن الصراعات والصخب، والعالم يدرك تلك المواقف الإيجابية والمتسامحة للبابا بنديكت السادس عشر من مختلف الصراعات الحضارية.

كانت الكنائس في أوروبا من أوائل المؤسسات التي استنكرت خطة تيري جونز لحرق المصاحف، وهي بذلك إنما تدافع عن قيمة الكنيسة وتسعى لتنزيهها، بل إن كنيسته السابقة في مدينة كولونيا الألمانية التي سبق وأن عمل فيها اتخذت موقفا مضادا وواضحا لخطته تلك.

تؤمن الكنيسة بما تسميه بالعلمانية الإيجابية أي التي تعترف بحق كل الأديان والمذاهب في العيش وممارسة الطقوس والاحترام المتبادل بين كل الديانات وهو الموقف الذي حفظ للكنيسة موقعها في كل التحولات المادية التي عصفت بالروحانيات بعيدا، وحينما تنحت الكنيسة بعيدا عن الصراعات السياسية والاقتصادية ، إلا أنها ترفض رفض الدين ونفيه من حياة البشر، وترى في ذلك فهما سلبيا للعلمانية.

التقارير التي تداولتها وسائل الإعلام الأمريكية عن تيري جونز، وعن مسيرته في العمل الكنسي لا تشير إلى شخص متميز على الإطلاق، بل حتى كتابه الذي أصدره بعنوان: (الإسلام من الشيطان) استقبلته مختلف الدوائر الأمريكية بفتور واسع، ونقلت مجلة دير شبيغل عن القاضي الذي استدعى جونز وسأله عن الإسلام أنه لا يعرف شيئا ويستمد كثيرا من معلوماته من مقاطع فيديو على موقع اليوتيوب.

ومن الواضح أن جونز قد وجد في فكرة بناء مسجد بالقرب من موقع هجمات الحادي عشر من سبتمبر مبررا سعى لاستغلاله بكل وجه ممكن، بل حينما وجد الإجماع الأمريكي على مناهضة مشروعه سعى لربطه بما يقدم موقفه وكأنه مناهضة للاستفزاز الإسلامي، وهو ما لا يعدو كونه محاولة لإيجاد مقابل موضوعي لموقفه، وبرغم ذلك فحتى من يعارضون فكرة إقامة المسجد لم يجدوا لدى جونز ما يغريهم بتلك المقايضة.

يتضح الآن كيف يمكن للعالم الإسلامي أن يتعرف على صورة أكثر نضوجا لأمريكا، فقد وجه البيت الأبيض مختلف إمكاناته السياسية والإعلامية للوقوف ضد مخطط جونز وأبانت أمريكا للعالم مستويين من التعامل في قضية المسجد وفي قضية حرق المصاحف، كانت إيجابية في الأولى بينما كانت حادة ومباشرة في رفضها للثانية.

ما كان سيقوم به جونز لم يكن كارثة لكنه كان أذى، على المستوى الحضاري والثقافي، فنحن نعلم أنه لو قام بذلك فما سيحترق ليس القرآن الكريم، بل مجرد أوراق فقط، فالقرآن الكريم أنزل بحفظ من الله تعالى لا يتأثر جلاله بمثل هذه المواقف. ولقد أثبتت هذه الحادثة قيمة أمريكية عليا في احترامها للأديان، فحتى الكثير من القوى الأمريكية المتطرفة كانت ترى في هذا الموقف مجرد تصرف بائس لا يحمل أية قيمة سوى قيمة الأذى الوجداني لشعور المسلمين، بينما حاول جونز أن يسوِّق نفسَه من خلال هذا الموقف، حتّى بعد أن أسقطت الدوائر الدينية في الغرب – عموما - شرعية ما يقوم به دينيا، وانجلى المشهد عن سذاجة مفرطة في الفكرة وفي الموقف.

وبرغم ما في الموقف من تطرف وسذاجة إلا أنه سيساعد على إيجاد استيعاب عالمي للتفريق بين ما يمكن تصنيفه كموقف حضاري وبين ما هو تصرفات فردية لا سياق لها، فجونز لا يقدم أمريكا ولا الكنيسة الأمريكية أو الغربية، وهو ما يشرح حالة الموقف العربي والإسلامي من القضية، فلم يشهد العالم الإسلامي تلك الحدة التي كان يجابه بها مواقفَ مماثلة، بل لقد كانت ردّات الفعل الإسلامية العنيفة على الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أبرز عامل في ترويجها وانتشارها، بينما كان الإعلام الأمريكي هو الذي رصد ونشر للعالم مخطط تيري جونز وجاءت المجابهة أمريكية بالدرجة الأولى.

يبدو أنه لم يعد في العالم مكان لمثل هذه الاستفزازات التي فقدت جدواها، فلم يتراجع جونز بسبب العالم الإسلامي بالدرجة الأولى، وإنما بسبب الضغط والرفض الأمريكي الواسع الذي حاصره من كل اتجاه، وعلى الرغم من أن الأجواء الأمريكية تعيش الذكرى التاسعة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر إلا أن ذلك لم يشفع لخطة جونز ولم يمنحه سوى المزيد من الرفض والمواجهة، وهو ما سيدفع بالعالم أجمع لأن يدرك أن استفزاز الأديان الأخرى من قبل أية ديانة ليس سوى مظهر من مظاهر التخلف والانتكاس الحضاري.