من عجائب مجتمعنا الكريم أن قضايا المرأة لدينا بكافة اتجاهاتها التنموية أو الاجتماعية أو الدينية يخوضها نقاشا وتنظيرا وآراء إخوتنا الرجال أكثر من النساء أنفسهن المعنيات بالقضية. والعجيبة الأخرى أن أكثر من يقف في وجه أي قرار أو رأي يصب في صالح النساء ويساعدهن على تحسين مستوى عيشهن ماديا واجتماعيا، أو يسهم في رفع الوعي العام للمجتمع والتخلص من أغلال العادات البالية وقيود التبعية ويمارس تحطيم "مجاديف" المبادرين والمصلحين بكل نضال وتلذذ واستماتة هن من النساء أنفسهن، وكأنهن يؤكدن مقولة أن "المرأة عدوة المرأة" أو يوافقن فيلسوف التشاؤم ومعادي السعادة "شوبنهاور" الذي يقول عن النساء: "هن أدنى درجة من الرجل في موضوع العدالة وأقل احتراما وذمة لأن قدرتهن على الاستنتاج هزيلة، يفقدن السيطرة على الوضع الراهن".

على طاولة حوار أو كما تريد الصنعة الإعلامية تسميتها بالمناظرة، يجتمع طرفان نقيضان في رؤاهما وتوجهاتهما من نفس المجتمع يفرد كل واحد منهما أوراقه وحججه وصوته رفقة قناعاته الشخصية، وهو يعلم يقيناً كما يعلم المعد والمقدم والمخرج بالإضافة إلى المتابع أن الهدف ليس الوصول لنقطة التقاء واتفاق بين وجهتي النظر بل إن البحث عن إثارة إعلامية هو الأساس والهدف، لأننا لا نجد حوارا ممنهجا بل جدلا يشير إلى نفسه ويقول بكل أنانية وحياد متطرف "أنا هنا وأنا فقط!". يتحدث هذان الطرفان في قضية تخص المرأة وتدور حولها وتعنيها بالمقام الأول وهي غائبة عنها في الحضور والمشاركة، وربما المتابعة لأن هذه الحلقة التي تتحدث عن "كشف وجه المرأة" تُناقش في وقت تكون فيه الكثير من المعنيات بهذا الوجه مشغولات بليال صيفية مليحة صاخبة بالاحتفالات والزيارات العائلية والانهماك "بلفّ" المعجنات لشهر قادم كريم، بينما المتابع الأول هو "سي السيد" الذي يعلم وتعلم معه الأغلبية الصامتة أن البت في هذا الخيار والقرار، خيار كشف الوجه أو عدمه، الأولوية فيه له وللمجتمع من خلفه الذي يخشاه أكثر من أي "تشريع".

لم تكن قضية كشف وجه المرأة في حجابها أمرا جديدا؛ بل الخوض فيه قديم والآراء حوله متعددة ومتفاوتة نلمسها في اختلاف أشكال حجاب النساء المسلمات حول العالم. وربما تجدد الحوار حوله في مجتمعنا المحلي يرفع الوعي بحقيقة الاختلاف المذهبي الذي تجمعه سماحة الإسلام وتقبله لكل الآراء ما لم تسبب شرخا في العقيدة، وربما يساعد المرأة في اختيار خيارها دون وصاية من طرف متطرف من أي اتجاه فكري. وبغض النظر عن اقتناع المشرعين لدينا والمؤيدين لهم بأهمية كشف وجه المرأة أو تحريمه فإن من المجحف في القول والحكم أن نقول إن النساء المسلمات المخالفات لنا في "الهيئة الحجابية السعودية" مخالفات للدين بالمجمل، مسببات للفتنة أو معرضات لخطر "الذئاب البشرية"، علما أن بعضهن يظهرن في كامل حشمتهن مسفرات عن وجوه كالأهلة مرتديات الحجاب "الأبيض" يقدمن برامج دعوية وفقهية في قنوات تصنف بالإسلامية يظهر بعدها على القناة ذاتها شيخ دين أو خطيب مفوه يحذر من سفور المرأة الذي لا يقصد فيه صورة متخيلة لإحداهن على شاطئ للعراة بالطبع، بل يعني به كشف المرأة لوجهها!

لعل الدوران حول هذه الحلقة التي لم تجد مخرجا هادئا وسليما في مجتمعنا بعد يجعلني أطلب من القارئ الكريم أن يعيش معي هذا المشهد المتخيل لحدث أنصب نفسي بطلته يحدث في أحد شوارع مدينتي المحافظة، فيحدث أن أخرج في أحد الصباحات الهادئة متوجهة لعملي أؤدي رسالتي في الحياة وأكسب رزقي مستخدمةً وسائل النقل العام – مازال المشهد خيالا- وأظهر بحجاب لا تصنفه الكتب الدينية التي تدرُسها تلميذات مدرستي - مكان عملي- بالحجاب الشرعي. بمعنى أنني كاشفة للوجه وهذا يستدعي بالطبع أن تكون عباءتي على الكتفين! وفجأة وأنا أنتقل من رصيف لآخر يظهر أحد المجرمين ويُسدد لي عدة طعنات تؤدي لوفاتي. ماذا "تتخيل" عزيزي القارئ أن تكون ردة فعل هذا المجتمع لمقتل سيدة في الثلاثين في طريقها لعملها على يد معتوه ما في مدينة سعودية؟ ولعلي أضيف للسؤال حتى يتوافق مع "الخصوصية السعودية": مقتل سيدة سعودية في الثلاثين كانت في طريقها للعمل كاشفة وجهها!

اعتذر من روح فقيدة الوطن ناهد المانع الطاهرة وأنا ألمّح لمقتلها الذي ذرفت له القلوب والأعين على يد غادرة لا تؤمن بالإنسانية، اغتالتها وهي آمنة في سعيها للعلم قبل قرابة عشرة أيام في مدينة كولشستر البريطانية. وأعتذر من عائلتها الكريمة وأقدم لهم عزائي ومواساتي ودعواتي وأعلم كم هم فخورون بها وقد أثلج صدرهم وصدورنا هذا الالتفاف من الشعب، ومن مسلمي العالم وكل من يؤمن بالإنسانية، الالتفاف حول قضيتها عزاء ودعاء وحرصاً أن ينال الجاني عقابه. ولكني لا أستطيع التوقف عن التساؤل بعيدا عن جوانب قضيتها الجنائية والإنسانية، ماذا لو أن ما حدث لناهد لم يكن في بريطانيا بل كان في أبها أو الرياض أو الجوف، هل ستكون ردات الفعل نفسها تجاه القضية من جميع شرائح المجتمع؟ أم أننا سنجد من يكيل للدين الإسلامي بمكيالين فتختلف الأحكام معه باختلاف المكان!