في نجوى عن الحياة النمطية الرتيبة، ونأي عن مألوف الزمان وتطابقه، أناخت أمتنا الإسلامية مطاياها بين يدي شهر عظيم، وضيف مبجل كريم. وإنا لنزف لأمتنا الإسلامية التهنئة الصادقة، مضمخة بالعبق الفواح، مع الدعاء الخالص الملحاح، أن يعيده الله عليها بالعز والنصر والاستقرار، والوحدة والرخاء والازدهار.

هنيئا يـــا بني الإســلام طرا

فقد وصل المبــارك بالعطاء

فحيوا شهركم بجميل صوم

فكم فرحت قلوب باللقاء

أمة الصيام والقيام، ها هو الضيف الحبيب، والشهر الزكي الرطيب، قد غمر الكون بضيائه، وعمر القلوب المعناة بحبه ببهائه وسنائه. شهر جرت بالطاعات أنهاره، وتفتقت عن أكمام الخير والبر أزهاره، وأسمع المسلمين في لهيف شوق لمقاصده وأسراره، وأصاخوا في خشوع إلى مراميه المستكنة وأخباره. تفيض أيامه بالقربات والسرور، وتنير لياليه بالآيات المتلوات والنور. موسم باركه الرحمن، وخلده القرآن: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان". [البقرة: 185]

أهلا وسهلا بشهر الصوم والذكر

ومرحبا بوحيد الدهر في الأجر

شهر التراويـح يا بشرى بطلعته

فالكون من فرح قد فاح بالنشر

شهر رمضان نفحة ربانية ومنحة إلهية، تفعم حياة المسلمين بالذكر والقربات، وفيه تلهج الألسن بعاطر التلاوات، وتبهج الأنفس بأنداء الصيام وأنوار القيام. إنه موسم الخير والعطاء، ومناسبة الطهر والصفاء، وفرصة البذل والنماء، وظرف المحبة والمودة والإخاء، وطريق البر والسعادة والهناء.

أطل سيد الشهور ليوقظ رواقد الخير في القلوب، ويعطل روافد الحوب ومساقي الذنوب، وفد ليرهف أحاسيس البر في الشعور، ومعاني الإحسان وبسط الحبور. فالأذن سامعة، والعين دامعة، والروح خاشعة، والقلب أواه.

نفوس أهل التقى في حبكم غرقت

وهزنا الشوق شوق المصلح العلن

نحب فيك قياما طاب مشربه

نحب فيك جمال الذكر فــي الغسن

في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة أن النبي قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين».

في لياليه الزهر ليلة خير من ألف شهر، الملائكة بالقانتين حافة، والرحمات فيها تترى كافة، في رمضان لا ترمق إلا الصوام والقوام، في تبتل وابتهال، ودموعهم من وقدة الضراعة في انهمال، يرجون الكبير المتعال غفر الزلات، ومحو الحوبات، وكشف الكربات، وإقالة العثرات، والفوز بالجنات.

ويا لهناء هؤلاء، يا لهنائهم كلما أبحروا في لجج الشهر المبارك، كلما انغمروا في أثباج المنن الإلهية والألطاف الربانية، ما أعظمه من شهر اغدودقت فيه أصول المنن، واخضوضرت فيه قلوب النازعين إلى أزكى سنن!

نعم، أتاكم شهر المرابح بظلاله ونواله، وجماله وجلاله. فهو أجل من أن تعد نفحاته، وتحصى خيراته، وتستقصى ثمراته.

هذا شهر العتق من النيران والجود، هذا إبان الترقي والصعود. فيا خسارة أهل الرقود والصدود. هذا زمان الإياب، "هذا مغتسل بارد وشراب"، رحمة من الكريم الوهاب. فأسرعوا بالمتاب، ولا تكونوا ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينالوا فيه الغفران والمنى.

أيها المسلمون الصائمون القائمون، لم يقف الشارع الحكيم عند مظاهر الصوم وصوره من الإمساك عن تناول المباحات والطيبات فحسب؛ بل إن ما عمد إلى الروح وما أكنت من رعونات كي يرقيها، وصمد إلى النفس وما اعتلقت من أشر وبطر لينقيها، وشخص إلى الجوارح وما اجترحت من آثام ليزكيها، وإلى المدارك والحواس وما احتقبت من أوزار فيجليها. في الحديث الصحيح أن رسول الله قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم»، وفي نهي شديد يقول فيما أخرجه البخاري وغيره: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».

فالصيام ترس للمسلم من الخطايا والأوزار، ولأمة دون التلطخ بالأدران والأكدار، وجنة واقية من لهيب النار. يقول فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

ولكن، هل يتحقق ذلك بصوم زرافات وفئام من الناس عن المباحات والطعام، كلا؛ إنما بصوم الجوارح عن الموبقات والفوادح، وعفة اللسان عن اللغو والهذيان، وحفظ الكلام عن الكلام، وغض البصر عن الحرام، وكبح الأقدام عن قبيح الإقدام، وبسط ندى الكف، والتورع عن الأذى والكف، والضراعة إلى الله بقلوب وجلة نقية، وطويات على صادق التوبة والإخلاص والتوحيد والسنة مطوية. وهل كفاء ذلك كله إلا المنازل العلى في جنات النعيم؟! فيا طوبى للصائمين القائمين.

يا له من خير عميم، ونعيم مقيم، من رب رحيم، ومولى حليم كريم. ولكن الأسى ليستعر في الأحلاء من أقوام لم يراقبوا الديان، فشرخوا حرمة رمضان، وساموا النفس والجوارح في حسك المنكرات والعصيان عبا من القنوات الخليعة، وفضائيات الرذيلة الفظيعة، التي لا تضري شرة قرصنتها للفضيلة والقيم النبيلة إلا في رمضان درة الزمان. فالله المستعان. لقد ارتكسوا في المآثم والمهالك، وأحالوا الليالي الغر حوالك.

إن الصيام يؤدب على الخير والفضيلة والحياء، ويسلك بالمرأة مسالك العفاف والحشمة. فاتقين الله أيتها المسلمات، وتحلين بالحجاب والعفاف والحشمة، واحذرن التبرج والسفور والاختلاط المحرم.

والله المسؤول بمنه وكرمه أن يبارك لنا في شهر رمضان، وأن يمن علينا جميعا فيه بالعتق من النيران، وأن يتقبل من الجميع صالح الأعمال، إنه جواد كريم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون" [البقرة: 185].

أمة الإسلام، ومع الإطلالة المباركة لشهر البطولات والأمجاد، والعزة الراسخة الأوتاد، إلا أن أمتنا الإسلامية لا تزال في تفرق وشتات، وتناثر وانبتات؛ بل ومع اللوعة والأسى تفاقمت قضاياها ومآسيها، واشتد نزف جراحها وتأبت على مداويها، وتكالب عليها الظلام من سائر نواحيها.

في هذا الشهر العظيم يندب اللهج بالدعوات الطيبات في شهر النفحات، فارفعوا أكف الضراعة لكم ولأهليكم وأمتكم، وألحوا على المولى سبحانه بالدعاء، وارفعوا إليه الشكوى والنداء أن ينصر إخوانكم المستضعفين والمشردين، والمنكوبين والمأسورين، والمحاصرين والمضطهدين في كل مكان، وأن يفرج كروبهم وهمومهم، ويكشف شدائدهم وغمومهم، إنه سميع مجيب.