عندما يبحث الإنسان في الصيام يجد أنه مدرسة سنوية منضبطة تعتمد منهج "الصوم" لتغرس في أنفسنا كـ"بشر" كثيرا من مفردات التربية على الخلق الحسن، والصدق، والحلم، والجود والكرم، وسلوك الانضباط والالتزام، لنخرج في نهاية الشهر الكريم بنتائج إيجابية أخلاقية وسلوكية تنعكس على أفعال كل مسلم.

فلو بدأنا بـ"خصلة الصدق" التي يجبر "الصيام" الإنسان على فعلها، لوجدنا مدرسة الصوم تركز في أحد فصولها على تعليم المسلم الصائم تجنب الكذب وقول الزور والغيبة والنميمة، ويغرس فيه خصال الصدق، صدق مع الله بترك الطعام والشراب لتحقيق رضاه - جل جلاله -، وصدق مع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته وتدبر سيرته، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (رواه البخاري).

وفي فصل ثانٍ من فصول مدرسة الصيام، نجد "خلق الحلم والأناة"، وصفات كظم الغيظ وضبط النفس، لأنهما من التقوى التي لا ينفك الصائم عن فعلهما تقربا إلى الله واقتداء بسنة نبيه، قال الله تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 134" (آل عمران)، وما جاء في الحديث القدسي حيث قال الله - عز وجل -: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم" رواه البخاري ومسلم).

وفي فصل آخر من فصول التربية في مدرسة الصوم، نجد سلوكيات الالتزام والانضباط والاهتمام بالوقت حاضرة، ففي رمضان يمسك الناس في وقت واحد، ويفطرون في وقت واحد، ويصلون القيام جماعة كرجل واحد في وقت واحد، في شهر الصيام لا يتكاسل المسلمون عن الطاعات في أيامه الأولى أو أيامه الأخيرة، بل عمل واجتهاد مستمر منذ رؤية هلال حلوله إلى رؤية هلال عيده، يعلمنا الصوم النظام والالتزام بالجماعة وينبذ الشذوذ عنها، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان وعرف حدوده، وتحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ كفر ما قبله" (رواه ابن حيان والبيهقي).

وفي مدرسة الصيام، نعرج الآن على فصل الكرم والبذل والعطاء، وكيف أن شهر الخير هو للكرم والجود والعطاء والصدقة، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جوادًا، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين كان يلقاه جبريل ليدارسه القرآن، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة" (رواه البخاري)، فهنيئا للمسلمين الذين تعلموا في هذه المدرسة العطاء والصدقة والتألم لجوع الآخرين ومساندتهم، وحب البذل في شهر الخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء" (رواه أحمد).

ولو انتقلنا إلى فصل جديد من فصول مدرسة الصوم، لوجدنا منهج الصبر وتحمل المشاق، والتعود على الصعاب، ومواجهة الجوع والعطش بالعزيمة والصبر والاتكال على الله، فالصوم مدرسة لتعليم الكبار والصغار الصبر والتحمل، ولتعويدهم على الإحساس بلوعات الجوع والعطش، لشكر الله أولا على ما يعيشه الإنسان من نعم الخير والأمن والاطمئنان، وليجرب ما يقاسيه إخوته المسلمون في بلاد الفقر والمجاعات، فيحس بحالهم ويقدم لهم يد العون والمساعدة، فضلا عن مساواة الصيام في الحكم فيه بين الغني والفقير، وإعدادهم لتقوى الله فيما بينهم وأن يتفقد بعضهم بعضاً، حيث يتساوون في الجوع، فتذهب غفلة الشبعان عن الجائع، ويتذكر الموسر حال المعسرين.

وما أكثر فصول التربية في مدرسة الصيام حين نتعمق في بحثها، ولكن ما ينبغي قوله هو إن الصيام مدرسة كبيرة للتربية والأخلاق والسلوك والانضباط والصبر والبذل والعطاء، وإعانة المسلم أخاه على الالتزام بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهر الصوم مدرسة يتدرب فيها المسلم على تقوية الإرادة وضبط الجوارح والأحاسيس، وعلينا أن نغتنم هذه المدرسة التربوية الكبرى بصدق العزيمة والنشاط، وأن نتربى فيها على الإيمان الحقيقي الذي تزينه التقوى والمراقبة والمراجعة والمحاسبة، حقا إنها نعم المدرسة التربوية الكبرى ذات الدروس والمناهج التي لا تعد ولا تحصى ولا تستقصى.