إن الانتقال من الدولة إلى الإمبراطورية أو "الخلافة" كما يحلو لنا أن نسميها، يتدرج عبر قرون؛ هذا حسب قانون التاريخ، وتطور ونمو التكتلات البشرية من شعوب إلى أمم، ومن ثقافات إلى حضارات. سوف يقول قائل: إن الدولة العربية الإسلامية الأولى، دولة "النبي" ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة المنورة تحولت إلى خلافة إسلامية في أقل من نصف قرن. هذا صحيح وهذا تطور طبيعي، يخص العرب في تلك الفترة لا غير، وذلك لأن دولة النبي أصبحت بعد فتح مكة تمثل أول دولة للعرب في العصر الوسيط، انضووا تحتها لتعبر عن طموحهم في كيان سياسي يجمعهم ويوحدهم؛ على أكثر من هدف وصعيد، مثل الدين والسياسة والأمن والتجارة؛ وكذلك تحت كيان جامع لهم؛ في ظل تنافس الإمبراطوريات الإقليمية على كياناتهم الصغيرة المتفرقة، واستغلال ثرواتهم، وفي بعض الأحيان النيل من كراماتهم.
كانت مكة قبل بزوغ فجر الإسلام، هي العاصمة المعنوية والمادية، وليست السياسية للعرب أجمع. إذ إنها أول مدينة عربية في الجزيرة العربية تشكلت من تألف قبائل عربية، وتحولت بعد تطورها إلى مدينة تجارية عامرة وزاهرة. تحولت بعد ذلك إلى مقر عبادات وحج وتجارة العرب، وهي مركز توزيع منتجاتهم الاقتصادية للشرق والغرب "رحلتي الشتاء والصيف"، وكذلك كانت مركز العرب الثقافي؛ حيث يجتمع العرب في سوق عكاظ كل سنة؛ ليتبارزوا في فنون الشعر والخطابة، حتى أصبحت لغة قريش هي لغة العرب الجامعة، بعدما قضت على اللغات واللهجات العربية الأخرى، وتحولت إلى لغة مكتوبة ومقعدة، تحفظ أداب وفكر العرب حينها.
إذًا فمن يحكم مكة أو يسيطر عليها؛ كان يحكم العرب، ولو معنويا، وذلك حسب معطيات ومكتسبات، ملموسة على الأرض؛ جامعة للعرب، وحتى لمن هم خارج الجزيرة العربية من العرب.
وعندما تم فتح مكة ودخلها الرسول ـ صلى الله عليه ـ وصحبه الأبرار؛ أصبح الرسول يحكم مكة حكما فعليا دينيا وسياسيا، فهو من أصدر مرسوما نبويا يخص أهل مكة يوم الفتح عندما قال صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، والكل امتثل لحكمه وحكمته.
عندها أقبل العرب من كل فج وشعب في الجزيرة، يبايعون الرسول، على الإسلام، والانضواء تحت حكمه ودولته طوعا وامتثالا.
قال سبحانه وتعالى: "إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره، إنه كان توابا".
إذًا، فنشوء دولة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تكن نتاج زمانها؛ فقد مهدت لها مكة ككيان وحدوي جامع للعرب، قبل ولادة الرسول بقرون.
نعم، دولة الرسول تحسب كانطلاقة للمرحلة التاريخية الثانية لنضج للعرب؛ ودخولهم مرحلة الحداثة الإنسانية لعصرهم. التي مثلتها الدولة، بخطاب الدولة ومؤسساتها وأنظمتها وقوانينها وقضائها ومؤسساتها وآلياتها التنفيذية.
هنا نستطيع أن نقول: إن دولة الرسول مثلت مرحلة النقلة الثانية للنضج العربي من المدينة "مكة" للدولة؛ حيث سبقتها النقلة الأولى للعرب من القبيلة للمدينة "مكة"، كما أن دولة الرسول، مهدت لولوج العرب للطور الثالث، للنضج العربي السياسي؛ من الدولة للخلافة أو "الإمبراطورية". التي من خلالها دخل العرب طور التاريخ، فاعلين فيه، لا مفعولين فيه، كما كانوا قبل دولة الرسول، وأسهموا كما أسهم غيرهم من الأمم المتحضرة السابقة لهم؛ في نشر الحضارة وإثراء العلم والعلوم والآداب والفكر الإنساني الخالد، الذي ننعم اليوم بكنف إنجازاته ومعجزاته.
أي أصبحت للعرب بصمتهم الواضحة والجلية في رقي ووعي وتقدم الإنسانية؛ مثلهم مثل اليونانيين والرومان والصينيين والهنود وغيرهم من الأمم التي أسهمت في إثراء مسيرة الحضارة الإنسانية قبلهم.
القراءة للواقعة التاريخية المبتورة عن سياقاتها السابقة واللاحقة، توقع من يحاول إعادتها على أرض الواقع الحالي، إلى كوارث إنسانية وحضارية شنيعة ومهلكة.
إن من يعتقدون بأن الدولة الإسلامية بدأت من الصفر، أو من القاع الحضاري، هم واهمون ومتوهمون. الدولة الإسلامية الأولى كما ذكرت أعلاه، تأسست كسياق حضاري تاريخي، لتطور العرب من القبيلة للمدينة، ثم للدولة وبعده للخلاقة، أو الإمبراطورية.
كان لمدينة مكة قبل الإسلام علاقات دبلوماسية وتجارية مع الإمبراطوريات والممالك المحيطة بها والبعيدة عنهان وذلك بسبب لعب أهل مكة دورا رئيسا وفعالا في حركة الاقتصاد الدولي حينها؛ وذلك عن طريق نقل التجارة العالمية من شرق العالم لغربه، وكان لهم قول معتبر في تسعير البضائع المتداولة وتصنيفها، في سوق التبادل التجاري بين الشرق والغرب.
كان زعامات مكة، ليسوا تجارا فقط؛ بل وحكماء ودبلوماسيين وسياسيين من الطراز الأول؛ فقد جنبوا خطوط تجارتهم النزاعات الإقليمية والدولية، وكانوا يتابعون الأحداث السياسية والعسكرية من حولهم، ويقيمون تداعياتها على تجارتهم؛ وعليه يرسمون خياراتهم. عندما هزمت الروم، مصدر تجارتهم مع الغرب، حزنوا كثيرا؛ ولذلك نزلت الآية الكريمة: "غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم بعد غلبهم سيغلبون"، ولذلك فليس بالمستغرب أن يكون جميع الخلفاء في الدولة العربية الإسلامية، هم من قبيلة قريش؛ حتى تفكك الدولة العباسية.
إن الخطاب الإسلاموي السياسي، وضيق الأفق؛ هو أول من بدأ يردد عبارات: "العودة إلى الإسلام"، و"الإسلام هو الحل"، و"الحل هو الرجوع، لما كان عليه الرسول والخلفاء الراشدون"، وهنا عمى تاريخي بامتياز؛ إذ لا يفرقون بين الإسلام بوصفه دينا والتاريخ بوصفه محركا لسياقات نمو وتطور السياسة، كإدارة واقع معين في زمان ومكان معينين.
الدين الإسلامي موجود ولم ينقطع منذ بزوغه، ولكن الذي انقطع هو السياق السياسي والحضاري والمدني للدولة العربية الإسلامية.
أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ كان يفرق جيدا بين الدين والسياسة؛ إذ قال: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". ولكنه اجتمع هو وبعض الصحابة، حتى قبل دفن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سقيفة بني ساعدة؛ ليديروا عملية خلافة الرسول في الحكم، وهو شأن سياسي بحت، حيث فصلوا في الأمر حسبما تستوجبه السياقات التاريخية وظروف المرحلة، ولم يستدلوا عليه بأي آية أو حديث.
إذًا فالخطاب الإسلاموي المؤدلج، هو الذي أنتج هذا الخلط المريع بين الإسلام والسياسة والتاريخ؛ فأحدث لدى العرب والمسلمين العمى الأيديولوجي الكارثي.
إن تحويل الدين الإسلامي من دين للبشرية كلها، إلى خطاب أيديولوجي سياسي متعصب وضيق، فتح المجال لكل من هب ودب، من المسلمين، لأن يطرح نفسه كمنظر وقائد سياسي، يجب على المسلمين كافة أن يتبعوه؛ ومن لا يتبعه منهم، فهو كافر، ماله وعرضه وحياته مستباحة، وعلى هذا الأساس أصبح مالنا وعرضنا مباحين، لكل من حمل سلاحا ورفع عقيرته بالنهيق والنباح.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا، وبرغم جهلها وضحالة تفكيرها، قادت التنظيمات الجهادية ثم سادت؟ الجواب في المقال القادم.