نُشر في فرنسا قبل أسابيع قليلة كتاب أثار الكثير من الاهتمام والنقاش تحت عنوان "الاتجاه السائد" لمؤلفه فريدريك مارتيل. ويأتي الكتاب بصيغة تحقيق صحفي طويل وموثق استغرق عدّة سنوات وقاد صاحبه إلى مختلف مناطق العالم بحثا عن الملامح المشتركة البارزة للمشهد الثقافي السائد اليوم.
النتيجة الأساسية التي توصّل المؤلف إليها تقول بوجود ما يسميه "ثقافة تجذب الجميع"، كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب. والثقافة التي تجذب الجميع تغدو بالضرورة ثقافة سائدة وتتماشى مع ذهنية العولمة. النموذج ـ الموديل ـ الأكثر تعبيرا عن هذه الثقافة "الزاحفة" يحدده المؤلف بتلك "المصنوعة" في الولايات المتحدة الأمريكية التي هي بصدد "غزو" العالم ثقافيا. أحد المظاهر الأساسية لسيادة هذه الثقافة يتمثّل في الهيمنة التي تمارسها اللغة الإنجليزية على المستوى الأوروبي والعالمي. إنها حرب جديدة لا تُستخدم فيها الصواريخ والدبابات، ولكن نتائجها قد لا تكون أقلّ حسما فيما يتعلّق برسم صورة المستقبل.
ما يؤكّده مؤلف هذا الكتاب بالوقائع والإحصائيات هو أن اللغة الإنجليزية تتقدّم بينما تنحسر وتتراجع اللغات الأوروبية في أوروبا ذاتها حتى على الصعيد الرسمي. رقم واحد يكفي للدلالة على ذلك وهو أن أقلّ من 25% من الوثائق الرسمية للاتحاد الأوروبي مكتوبة اليوم باللغة الفرنسية مقابل 50% كانت تُكتب فيها منذ عشرين سنة خلت.
اللغة الإنجليزية تتقدّم إذن في أوروبا ويتعزز حضورها، وهي تحمل معها، أو تحملها، الثقافة الأمريكية. ويؤكّد مؤلف هذا الكتاب أن الثقافة "الشعبية" المشتركة الوحيدة بين الشباب الأوروبيين عامّة في السياق الراهن هي الثقافة الأمريكية. بل لا يتردد في القول:" لدى كل أوروبي اليوم ثقافتان، ثقافته الأوروبية والثقافة الأمريكية".
"الخاسر الأكبر" كما يرى المؤلف من هذا "الزحف الثقافي الأمريكي" هو بالتحديد أوروبا. وتشير الإحصائيات المقدّمة إلى أن حصّة القارّة القديمة من الإنتاج الثقافي العالمي في مجال السينما والتلفزيون والموسيقى تنخفض منذ بداية هذا القرن الحادي والعشرين بنسبة 8 بالمئة سنويا بينما تزداد نسبة الصادرات الأمريكية في نفس المجال بنسبة 10% سنويا.
وفي العام الماضي 2009 كان هناك من بين مجموع 9100 كتاب جرت ترجمتها إلى اللغة الفرنسية 5600 كتاب منقولة عن اللغة الإنجليزية خاصّة بـ"نسختها" الأمريكية. ويزداد خطر تهميش أوروبا بسبب تعاظم حصّة الإنتاج والتصدير "الثقافي" من البلدان الصاعدة إجمالا التي أدركت عمق الرهان المطروح، والصين على رأسها فـ"الصاروخ الثقافي الصيني قد أقلع"، كما يقول مؤلف الكتاب.
المسألة إذن ليست ثقافة فقط ولكنها أيضا اقتصاد، بل اقتصاد وخاصّة في عصر العولمة. فهذه "الصناعة" الثقافية غدت رهانا هاما في سوق المبادلات التجارية العالمية وتتعاظم حصّتها أكثر فأكثر في إجمالي الإنتاج العالمي. والشركات والمجموعات الأمريكية المختصّة هي صاحبة الحصة الأكبر في هذه الصناعة وأسواقها. هنا أيضا يقدّم المؤلف العديد من الإحصائيات التي تثبت مثل هذا الواقع.
المدهش ـ كما يقول المؤلف ـ هو أن الثقافة الأمريكية تنتشر وتتوسّع مجالاتها ونشاطاتها في أوروبا وفي العالم رغم المعارضة التي يبديها كثر لذلك. مثل هذه المعارضة تبدو مثلا بوضوح في تصريحات الكثير من المسؤولين الفرنسيين وغيرهم. لكن حتى أولئك الذين يعلنون معارضتهم الصريحة للولايات المتحدة في العالم فإنهم "يفعلون ذلك وهم يقلدون النموذج الأمريكي الذي يمارس قوة جذب كبيرة"، كما نقرأ.
نحن إذن أمام مواجهة حقيقية جديدة والكل معني بها. وككل مواجهة تتحدد نتائجها بمدى الإعداد والاستعداد لها. ولا شكّ أن أقلّ المواقع حصانة هو موقع المستهلك المقلّد والمأخوذ بـ"البضاعة" الثقافية المعروضة عليه.
هذا لا يعني بالطبع التقوقع والانكفاء على الذات بل على العكس الانفتاح على العالم وعلى ثقافاته ولغاته باعتبارها أدوات، "أسلحة"، لها دورها في صياغة صورة هذا العالم. وليست اللغة الإنجليزية فحسب، بل أيضا مختلف اللغات "الصاعدة" وفي مقدمتها اللغة الصينية التي أصبح تدريسها يحتل مرتبة متقدمة ـ بعد الإنجليزية ـ بين اللغات في المدارس والمعاهد الأوروبية على مختلف مستوياتها. إنه الإحساس بضرورة امتلاك أدوات المواجهة والتحضير لولوج عالم الغد القريب الذي تتوضّح ملامحه. فأين نحن من هذا كلّه؟.