منذ أيام الخوارج، وهناك من يتحولون في مواقفهم وآرائهم الفقهية والسياسية، أي أننا ورثنا في تكويننا وعقلنا الاجتماعي جينات تناقض تفسير كثير من المتغيرات التي تلحق ببعض الأشخاص، وذلك يضعنا أمام نوعية أقل ما توصف به أنها غريبة، وتكتسب طابعا راديكاليا في تفكيرها لمجريات الحياة، دينيا أو فكريا أو اجتماعيا وسياسيا وغيرها، ولذلك من الصعوبة بمكان تبيان موطئ قدمها لأنها تفضل أن تتحرك في أرضية زلقة، إذاً ما إن تجدها في أقصى اليمين حتى يمكن في طرفة عين أن تتحول إلى أقصى اليسار، وذلك يمكن وجوده في كثير من نماذج الشخصيات التي تزعم لنفسها فكرا تجديديا أو رؤى نقدية متقدمة على سواها حول المتعلقات الدينية، سواء كان ذلك في المذهب الشيعي أو السني، خاصة أن ساحات الإعلام الجديد أتاحت لكل صاحب بضاعة فكرية جيدة أو كاسدة عرضها، وقد يجد له مؤيدين أو معارضين.

المرحلة الإسلامية والعربية الراهنة التي تتحرك فيها الأحداث كالرمال المتحركة، أصبح نقد الدين والموروث المذهبي في ظل اشتعال الصراع الطائفي، سببا لاستقطاب الناس ليس إلى أفكار متطورة ومستحدثة قابلة للتعامل مع المجريات بمنطق سليم ورؤية شفافة، وإنما للتجييش الذي لا ينتهي إلى نهايات منطقية تختص بتحقيق وتأكيد الدين في النفوس، ولذلك نرى عقب الربيع العربي أن المتطرفين من هذا المذهب أو ذاك يصطفون حول أفكار عدائية صارخة تعبر عن حاجتهم لأن يكونوا في مسار يجمعهم على أمر مقدس أو خلف ناقد أو ناقم عالي الصوت، يصفقون له ويجتمعون حوله، فنحصل بذلك على أضداد تتنازع وتمارس صراعا غير مطلوب، وساحة تويتر أصبحت تعج بنماذج شيعية وسنية تسعى إلى نقد الموروث وغربلته، فيما هي في الحقيقة تسعى إلى إشعال الفتنة والحريق الطائفي.

قياس حالات أولئك الرجال الذي يسعون إلى الاصطفاف المذهبي والعقدي، نجده في ذلك الحوار الذي عرضته روتانا خليجية منذ أيام مع الشيخ حسن المالكي الذي يعد من الشخصيات الجدلية في الساحة، من خلال نقد الخطاب الديني، وكان الحوار في مجمله يحمل تناقضات تجعلك في حيرة في تصنيف الضيف الذي بدأ الحديث بشكل إنساني متعاطف مع كافة التوجهات الفكرية والتي شملت حتى الملحدين، أو ما يمكن أن يحتمل تفسيرا لمرفوضات دينية، فمن خلال الحوار اضطرب الرجل وراوح بنفسه يمنة ويسرة، حتى تكاد لا تستبين ما يقصده أو يرمي إليه بالضبط، ففي الوقت الذي وجدت فيه المالكي متعاطفا مع كافة أصناف البشرية، حيث قال إنه يرى أن "الملحد الجاد الباحث الذي يموت قبل أن يجد إجابات عن أسئلته ولم يؤذ أحدا من الممكن أن يدخل الجنة، وفي مرحلة لاحقة من الحوار أجده يتحدث بعداء ضد السلفية، ويقول إنه لم يجد سلفيا عاقلا، وهذا تناقض في شخصية المالكي، ولا يعني ذلك دفاعي عن السلفية أو غيرها، خاصة إذا وجدناه يمتدح علماء الشيعة ويصفهم بقوله (تجدهم في الجملة متواضعين، ويسمعون، وواسعي أفق)، وهذا يتناقض مع حقيقة أغلب رجال الدين الشيعة، مما يحفزني إلى القول إنه غير مخول بالحديث عنهم، حيث إنه لا ينتمي إلى المذهب وأهل مكة أدرى بشعابها.

وفي الوقت الذي يحرص فيه المالكي على أن ينفي عن نفسه الانتماء للمذهب الشيعي، باتهامه لكل من يتهمه بالتشيّع بأنهم "نواصب متخفون"، فإنه يرى أن التشيع تهمة يرفض الانتساب إليها، ثم نجده يدافع عن الشيعة ببسالة ليعود وينفي مجددا قناعته بمعتقداتهم كالعصمة والتجسيم والتطبير وغيرها، وربما يأتي ما يكنه المالكي للشيعة من مودة في سبيل التعاطف لا أكثر جراء كرهه العميق لبني أمية، أو بحسب ما أطلق عليه عبدالله المديفر (العقدة الأموية) التي يعاني منها المالكي.

ولعل النقطة الموضوعية الوحيدة التي لم تحتمل تناقضا في الحوار هي تلك التي خص بها الشيخ عبدالعزيز بن باز "رحمه الله" ليصفه بصفات المعتدل والمتواضع، غير أنه سرعان ما ارتد إلى التناقض عندما سئل عن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وصفه بأنه (ما زال بطلا عربيا وإسلاميا وقوميا، وأنه مجاهد ومقاوم)، وأنكر كل ما يخص عنف حزب الله، وهذا غير حقيقي لأن القاصي والداني يعلم يقينا أن الحزب تحول إلى العنف مؤخرا وأهدر قيمة الجهاد والمقاومة.

حوار المالكي من الصعب أن يحتمل إيجابيات في ظل كثير من التناقضات التي استوعبها في طرحه، ولا يبدو الرجل جديا أو مجددا أو يحمل فكرا يمكن أن يسهم في التعامل مع المتغيرات الدينية أو المذهبية على أرض الواقع، وكما بدا مرتبكا ويعرض تناقضات هنا وهناك، يصبح حديثه مردودا وغير ذي نفع لأي متلق عانى حضور الحوار وترقب أن يرى جديدا فكريا ودينيا فانتهى به الحال دون أن يفهم شيئا.