هل فكرنا مرة أن نتعبد بـ"الصمتِ" قليلا!؟ نصوم عن الكلام سعيا للتقرب بذلك إلى الله تعالى!؟ قد يستغرب بعضهم؛ كيف نتعبد بالصمت؛ أيكون وسيلة للتقرب من الله تعالى!؟

هؤلاء ممن يتساءلون ينسون أن الصوم عن الكلام نوع من العبادة؛ وينسون ما ترتله ألسنتهم في القرآن الكريم من أن السيدة العذراء مريم عليها السلام صامت عن الكلام بأمر إلهي كنذر: { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}؛ فصمتها عبادة وإلا لما جاء تصنيف الصوم كنذر للرحمن في تبرير عدم حديثها مع قومها؛ وما كان ذلك إلا رحمة من الله تعالى بها لصرفها عن مواجهة قومها كما نعلم القصة؛ والنذر نوع من التعبد نتقرب به إلى الخالق - عزّ وجل -؛ وكذلك فعل زكريا عليه السلام حين بشرته الملائكة بغلام وقد بلغ من الكبر وامرأته عاقر فقال: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}؛ وسواء كان عدم كلام زكريا مع قومه علامة طلبها هو ليصدق البشارة أو كان عقابا له كونه لم يصدق الملائكة بما بشرته متناسيا قدرة الله على جعل ما يريده بكن فيكون؛ فعاقبه أن عجز عن الكلام ثلاثة أيام إلا رمزا؛ لكن صوم زكريا كان عبادة؛ سواء في الأولى كشكر لله تعالى على البشارة أو استغفار وتوبة عن عدم تصديقه البشارة في الثانية.

لستُ أحاول هنا إلا تأمل الصمت ذاته أو الصوم عن الكلام حين نتعبد به؛ وكيف لا!؟ وهو يسعى بالعقل إلى التأمل، والتفكر إلى الفهم، وبهما يحصل الوعي؛ إنك تعجز عن التفكير وأنت تتحدث؛ وكثيرون يندمون على أحاديث قالوها؛ وتزل بها ألسنتهم؛ وإلا كيف سيكون أكثر الناس في جهنم إلا لحصاد ألسنتهم؛ إنك تصوم عن الكلام كي تنصت جيدا للآخرين؛ تنصت حتى تقترب من طبيعة تلك الأشياء الصغيرة الهامشية التي تحيط بك؛ تنصت جيدا لمشاعر الآخرين وأحزانهم وأفراحهم وحتى أفكارهم السوداء.. إنك تُنصت للسماء.. للحجر.. للوردة.. للتفاحة.. للقطة.. حتى تلك الذبابة التي تطير فوق رأسك أو النملة التي تمشي بين مفرق قدميك.. وقد تنصت لانسكاب الماء في كأسك.. ولأوراق الشجر وهو يتبادل حوارا مع الهواء.. كل ذلك تدركه حين تصوم عن الكلام؛ وهكذا تتدبر وجودها وكيانها؛ تقترب من فهم ماهيتها وأهميتها؛ ثم تفضي بك إلى الأسئلة والأسئلة إلى أجوبة، وتُلح الأجوبة على مزيد من الأسئلة وتنتهي بك كلها إليه سبحانه وتعالى؛ وترتقي تلك الروح بشفافية؛ فيرى القلب ما لا تراه العين؛ فيدرك العقل ما لا تتسع له الأرض؛ وتلمس بيديك زرقة السماء؛ فتتواضع أكثر؛ وتؤمن أكثر؛ وتصمت أكثر فأكثر تعبدا وسلاما.

كلاكيت أول مرة:

صيام رمضان ليس فقط إمساك البطون عن الأكل والشرب نهارا؛ للإحساس بالجائعين، لو هذا فعلا ما نشعر به لمَ نسينا أننا نسد الجوع مع غروب الشمس بكل ما لذ وطاب من حلويات ومشهيات ومقليات تمتلئ بها السفرة وينتهي مصيرها إلى سلة النفايات لا بطون الجائعين!!