إذا عد المسؤول أو المدير الإداري نفسه فوق المساءلة والعقاب، فلا يلام المرؤوسون والموظفون الصغار إن هم تلاعبوا أو تراخوا في أداء العمل، ولكن هناك من يقول بأن الفرق هنا هو أن الموظفين الصغار هم الفئة الضعيفة والمغلوبة على أمرها، وهم وحدهم فقط الذين تنصب عليهم العقوبات والجزاءات الإدارية!، والسؤال المطروح هنا: هل الموظفون الكبار في الإدارة العليا مستثنون بالفعل من تطبيق العقوبات بحقهم في حال ارتكابهم مخالفات إدارية؟.

نظام تأديب الموظفين في الحقيقة لم يستثن المراتب العليا من العقوبات الإدارية، فقد تضمنت المادة (32) من النظام أن العقوبات توقع على الموظفين الذين يشغلون المرتبة (الحادية عشرة) فما فوق وهي (اللوم، والحرمان من العلاوة، والفصل من الخدمة)، وذلك تشديداً على شاغلي هذه المراتب العليا حسب رأي بعض خبراء الإدارة، ولكي تتفق عقوبة الموظف مع مسؤولياته حسب ما جاء في المذكرة التفسيرية للنظام، بخلاف العقوبات التي توقع على الموظفين الذين يشغلون المرتبة العاشرة فما دونها، والتي تتضمن بالإضافة إلى العقوبات السابقة (الإنذار والحسم من الراتب).

ولكن بعض فقهاء القانون يرون أن التفرقة في العقوبات الواردة في النظام تخل بمبدأ المساواة، الذي يقتضي ألا تختلف العقوبة التأديبية باختلاف الأشخاص في مراكز السلم الإداري، بحيث تسري جميع العقوبات على سائر الموظفين، وبالتالي فإن مرد هذه التفرقة يعود إلى فلسفة كانت مستحكمة خلال فترة زمنية مضت، وهو ما اجتازته الآن التشريعات الوظيفية المعاصرة.

كما يرى فقهاء القانون أن "التصنيف العقابي على أساس الموقع الوظيفي للمخالف، أمر غير مبرر، لأننا نكون في المجال التأديبي بصدد مخالفة تأديبية يتعين مقابلتها بجزاء مناسب، تحقيقاً لهدف العقوبة الردعي، دون أن يكون للموقع الوظيفي لمرتكب المخالفة اعتبار في ذلك"، وبالنسبة لتشديد العقوبات على شاغلي المناصب العليا فإن الأمر يتعلق بأسباب المخالفة، والتي من المفترض أن تكون أشد على هذه الفئة لافتراض الخبرة والقدوة للمرؤوسين.

أما بالنسبة لإجراءات التحقيق، فإن نظام تأديب الموظفين لم يستثن أية فئة وظيفية من ذلك، فإما أن يكون التحقيق من قبل الجهة الحكومية نفسها وذلك حسب المادة (35) من النظام، أو أن يكون التحقيق من قبل "هيئة الرقابة والتحقيق" وفقاً لحالات معينة نصّ عليها النظام في أكثر من مادة، منها ما جاء في الفقرة الثالثة من المادة الخامسة والتي تنص على "إجراء التحقيق في المخالفات المالية والإدارية التي تكشف عنها الرقابة وفيما يحال إليها من الوزراء المختصين أو من أي جهة رسمية مختصة".

وبالرغم من عدم استثناء الموظفين في المراتب العليا من إجراءات التحقيق، إلا أنه لم يأخذ في الاعتبار أن التحقيق مع هذه الفئة من كبار الموظفين عن طريق الجهة الحكومية سيفقد الحيدة والموضوعية المفترض توافرها في التحقيق، فكيف سوف تتم إدانة قيادي ربما يقع على قمة الجهاز الإداري؟، وعلى هذا الأساس يرى فقهاء القانون أن تكون الجهة المختصة بالتحقيق هي النيابة الإدارية ممثلةً في هيئة الرقابة والتحقيق بحيث تكون صاحبة الاختصاص الأوحد في هذا الشأن للتحقيق مع من يشغلون وظائف الإدارة العليا، واستبعاد هذه الفئة من تحقيقات الجهة الحكومية التي يعملون بها.

ولكن الإشكالية في تأديب كبار الموظفين، أن هذه الفئة لا تحال في الأساس إلى التحقيق في بعض الجهات الحكومية، وبالتالي فإنها لا تخضع للعقوبات الإدارية، وذلك خوفاً من الدخول في دائرة تصفية الحسابات!، وهي من الآفات التي تعوق الإدارة الحكومية عن أداء دورها، حتى وإن ثبت انحراف الإدارة عن السلطة فإنه لا يتم تطبيق عقوبات بحق الإدارة العليا من باب الحفاظ على هيبة الإدارة.

فبعض الجهات الحكومية في الغالب تتكتم على المخالفات والفساد الإداري، خصوصاً إذا كان الضالعون فيه من ذوي المراتب العليا، ولكن إذا ارتكب أحدهم مخالفة كبيرة لا يمكن تغطيتها، خاصة إذا افتضح أمرها من قبل جهة خارجية أو رقابية، وطلبت هذه الجهات التحقيق في هذه القضية، فإن الجهة الحكومية تقنع الآخرين بأنها يمكنها أن تقوم بالتحقيق في القضية واتخاذ أقسى العقوبات بصددها.

وفي الغالب يتم تشكيل لجنة للتحقيق في موضوع الشبهات، ومثل هذه اللجان تستغرق أعمالها سنوات طويلة، حتى يتم نسيان القضية، أو البحث عن موظف صغير يتحمل مسؤولية هذه المخالفة.

وفي حالة افتضاح المخالفة على مستوى واسع، ووجود أدلة دامغة على ارتكاب المسؤول الإداري لمخالفة كبيرة، فيتم تطبيق عقوبات دبلوماسية بحقه دون إجراء تحقيق، فإما أن يتم نقله إلى إدارة غير تنفيذية وبالتالي إبعاده عن خطوط السلطة والمسؤولية أو نقله إلى جهة حكومية أخرى أو إحالته للتقاعد المبكر، ونتيجة لذلك ربما يحدث صدام إداري بين المسؤولين والمديرين، تكون عواقبه وخيمة في الجهة.

وبناءً على ما سبق، لن تكون توصيات فقهاء القانون بخصوص المساواة في تصنيف العقوبات، أو الإحالة إلى النيابة الإدارية مجدية على أرض الواقع في ظل التكتم على مخالفات كبار الموظفين، ولكن العلاج المفصلي لهذه الإشكالية، هو دور القضاء الإداري في هذا المجال، لأنه الوحيد الذي يقف وجهاً لوجه مع مرتكبي الفساد الإداري في قاعات المحاكم.

كما ينبغي النظر في توسيع دائرة القضاء الإداري بحيث لا تقتصر فقط على الحكم ببطلان أو إلغاء القرارات الإدارية وإنما تشتمل أحكامه بعض العقوبات الإدارية التي يمكن تطبيقها على صاحب القرارات الإدارية الملغاة أو الذي يثبت انحرافه في السلطة الإدارية كاللوم أو الإنذار أو النقل من الوظيفة، منعاً من سوء استخدام السلطة ووضع حد للتعسف الإداري، وإشعار المسؤولين من ذوي المراتب العليا بهيبة القانون والنظام وقوته في الردع.