اربطوا الأحزمة، سنتحدث عن القضية الفلسطينية، وأقسم بالله تعالى بهذه الأيام المباركة أنني لم أعد أحتمل مجرد التطرق إليها، فمنذ أن تفتح وعييّ السياسي كأني أسير لها، فهتفت بالمظاهرات وأحرقت علم إسرائيل ورددت خلف الأئمة بكل صلاة أن ينصر الله إخوتنا الفلسطينيين، ويُبيد اليهود ويشتت شملهم.
عرفت الراحل ياسر عرفات ورفاقه بمنظمة التحرير، وحاورت قادة المنظمات على تنوع مشاربها، حتى قادة (حماس) تحدثت معهم منذ انخراطهم بجماعة الإخوان أثناء دراسة معظمهم بمصر، وكتبت أطنانا من المقالات والتحقيقات والتقارير الصحفية، ورغم مرور ربع قرن أستمع لنفس العبارات والثقة بالانتصار على "الكيان الصهيوني"، كما كنا نصف إسرائيل استخفافا بها وتحقيرا لشأنها.
وحين أبرم الرئيس الراحل أنور السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل عارضته، ورددت أناشيد الشيخ إمام ومارسيل خليفة حتى بلغت الأربعين وهي (مرحلة فاصلة) في وعينا بالعالم، فتوقفت مع نفسي لأعيد تقييم مواقفي بعقل بارد وتنحية المشاعر الجيّاشة جانبا، لأكتشف حقائق مريرة، بعدما طفح الكيل، ولم يبق في قوس الصبر منزع، وشحّ القوت، وخربت البيوت، وبلغت القلوب الحناجر.
لحظة التحول الكبرى بدأت عقب نشأة (حماس) عام 1987 باسم "المرابطون بأرض الإسراء" لكنها غيرت اسمها ليكون اختصارا لحركة المقاومة الفلسطينية (حماس) وأعلن مؤسسوها أنها الذراع العسكرية لتنظيم الإخوان الدولي، واشتعلت حرب الهويات مع منظمة التحرير وحركة فتح بين المرجعية الوطنية والأيديولوجية، ومارست حماس ضد معارضيها الفلسطينيين جرائم قتل وإحداث عاهات مستديمة للآلاف من أبناء فتح ومنظمة التحرير، لتحقق إسرائيل أخطر أهدافها منذ بداية الصراع بشق الصف الفلسطيني.
الآن وهنا بالقاهرة، وإذا استبعدنا المظاهرات المحدودة لأنصار الإخوان، وبعض النشطاء اليساريين، فقد تغير الوضع كثيرا، فبعدما كان بكل عملية إسرائيلية عسكرية يخرج المصريون للاحتجاج بجميع العهود، لكن هذه المرة التزم غالبية المصريين صمتا يعني دلالات كثيرة، فالتعاطف الشعبي تراجع بشكل يُثير علامات استفهام ربما نجد إجابات صريحة عليها عبر شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية نظرا لحرية التعبير التي تتيحها.
الحقيقة مريرة غالبا، وبتقديري ارتكبت حماس "خطيئة الإخوان" المعهودة بنقل الصراع من الأرضية الوطنية إلى الأيديولوجية باعتبارها الفرع الفلسطيني للتنظيم، لهذا تسعى بهذه المواجهات لإنهاء عزلتها السياسية والعودة للخارطة السياسية بعد تهميشها إثر سقوط حكم الرئيس السابق مرسي وجماعته، واتفقت قوى إقليمية وتنظيم الإخوان الدولي على دفع الحركة للمواجهة كفرصة لاستعادة شعبيتها التي اهتزت بوضوح بالشارعين المصري والعربي عقب تورطها بالصراعات الداخلية بمصر وسورية وغيرهما، والدليل التجاهل بعدما كانت تحظى بدعم شعبي هائل بمواجهاتها السابقة، وارتفعت أصوات تصفها بأنها لم تعد "حركة مقاومة" بل "مقاولة" لصالح الإخوان، ودول تحمل حسابات ترغب بتصفيتها مع المسار السياسي المصري الجديد.
وقبل أربعة أشهر جرت مناورات عسكرية تركية/ إسرائيلية اتضح أنها كانت تمهيدا للعملية العسكرية المستعرة حاليا، فاللعبة كانت مرتبة على "نحو ما" لتوريط القيادة المصرية الجديدة بآليات ترفضها، فتجربتها مع "بارونات حماس" ليست طيبة، ودماء الجنود حاضرة بوجدان المصريين، ومتداولة بأروقة القضاء، فضلاً عن أيادي "سماسرة الحرب بالوكالة" من ذيولها بتنوع مسمياتها: "أنصار بيت المقدس"، "أجناد مصر"، وغيرها.
الفرق بين تلك الكيانات كفرق الأسماء التجارية للمياه الغازية، فهذه التنويعات مضمونها مشترك: "ميليشيات الإخوان" وتنظيمهم الدولي وجناحهم الحمساوي، ولدى أجهزة مصر السيادية أدلة وقرائن يُحاكم بمقتضاها مرسي وإخوانه بقضية التخابر الشهيرة، بالإضافة لتواتر تسريبات بشأن صفقة بين واشنطن والإخوان لتصبح سيناء وطنا بديلا للفلسطينيين، إبان صعودهم لسدة الرئاسة، لكن القوات المسلحة أجهضت المخطط.
الوضع الراهن أن القيادة المصرية ترفض بحسم فكرة "الكفيل الضامن" لانعدام الثقة بحماس وما يمكنها تقديمه "وساطة غير مشروطة" بأية التزامات مصرية، فما زالت محاولة تصدير غزة بأزماتها لسيناء مستمرة كما تشير لذلك معطيات سربتها الأجهزة المعنية، وتؤكد أن أهالي غزة كانوا في غنى عنها، خاصة بعدما تراجع اهتمام الشارعين المصري والعربي وعدم الاكتراث لممارسات الابتزاز السياسي والعاطفي.
يتوازى ذلك مع تورط حماس في "كربلائية إخوان مصر" فألحقت الضرر بالشعب الفلسطيني حينما دفعت فاتورة سقوط الإخوان، لتثبت أنها حركة أيدلوجية أكثر من هويتها الوطنية بزمن تراجعت فيه الأيديولوجيات، ويبدو واضحا أن حماس شأن إخوان مصر، تصرفت باعتبارها حركة عقدية تتجاهل السلطة الفلسطينية وتحشر نفسها بمأزق لم يدع أمامها خيارات كثيرة، مما دفعها لمغامرة استدرجتها إسرائيل إليها، ورفضها المبادرة المصرية بطريقة عنترية، واللجوء لدول أخرى متجاهلة أن أي مبادرة لن تنجح بمعزل عن القاهرة، وفقا لما تملكه من أوراق، وتؤكده حسابات الجغرافيا السياسية وتاريخ القضية برمتها.