في أيّ مكان من الدنيا، مُتوقعٌ أن تحاول الرقابة وأساليب تحديد حرية الكلمة والتعبير أن تظهر بمظهر بريء، وأن تبدو صديقة للناس والبيئة والحياة، وضرورية ومفيدة وغير مؤذية. لكن أماكن الدنيا تختلف في طريقة استجابتها لهذه الدعاية. في بعض الأماكن هناك من يراقب الرقابة بشدة ويجعل حياتها صعبة وعملها حذراً ودقيقا. أقرب مثال على هذا موضوع تنظيم النشر الإلكتروني الذي يبدو أنه يتطور الآن بسرعة ليُقرّ كتنظيم فعلي.

 أكدّت وزارة الثقافة والإعلام أكثر من مرة أن التنظيم سيشمل "كل المواقع، والمدونات والمنتديات"، وأنه سيتطلب "وجود مرجعية للموقع الإلكتروني للتواصل مع الوزارة"، وأنه من الممـكن "حصر جميع المواقع بعد التنظيم، و يُؤمل في المستقـبل أن يُراجع أصحاب المواقع الإلكترونية الوزارة قبل افتتاح مواقعهـم"، و"سيُمنـح الجميع فرصة للتسجـيل، لكـن النظام سيسري على الجميع". الوزارة أيضاً بالتعاون مع "هيئة الصحفيين" عرضت (ميزات) و(إغراءات) تُشجع على تسجيل المواقع. "مثل التصاريح والدعم اللوجستي". في حديثها عن مشروع التنظيم حرصت الوزارة على التأكيد على خطورة فوضى المواقع الإخبارية وخطورة التشهير ونشر الأخبار الكاذبة، وعلى حاجة هذه المواقع للتنظيم كما للدعم.

هذا هو تقريباً محتوى الحملة التسويقية لمشروع التنظيم. يبدو وكأن المشروع ينطلق من المواقع الإخبارية وإليها، لتنظيمها ولفائدتها. لكن ما يثير التساؤل هو إدراج المدونات والمنتديات – وربما أنشطة إلكترونية أخرى أيضا – ضمن المشروع.

 فالمدونات والمنتديات ليست مواقع إخبارية فعلاً بقدر ما هي قنوات لآراء أشخاص مجهولين.

 من ناحية ، هذا يُسقط عنها ضوابط (الخبر) التي تسمح بملاحقة ومقاضاة ناشره. ومن الناحية الأخرى ، فالمدونات والمنتديات لن تستفيد من (ميزات) تسجيل الموقع و"التصاريح والدعم اللوجستي" ، لكونها أصلاً لا تُدير أنشطة صحفية ولا تبعث مراسلين ولا تُخاطب للحصول على تصريحات المسؤول. أما في حالات التشهير والتجريح العائلي والشخصي، التي قد تكون مؤذية وإن كانت مكذوبة، فأنا أشعر بالدهشة حقا لكون هذا الفضاء الإلكتروني بقي منضبطاً إلى حدٍ كبير رغم الحرية الواسعة فيه. وفي معظم الحالات الحساسة تكفي مراسلة إدارة المنتدى لحذف الموضوع، أما في حالة المدوّنات فيمكن حجب المدونة وملاحقة المدوّن على أساس نظام مكافحة جرائم المعلوماتية.

وبعد كل شيء، هل تطمح الوزارة فعلاً إلى تنظيم ما يجري على الإنترنت؟! إذا كانت تطمح لهذا فعلاً فعليها أن تأخذ في اعتبارها كل المواقع الاجتماعية، حتى (يوتيوب) و(تويتر) أيضاً، إلا إذا كانت تعتقد أن 140 كلمة لا تكفي لبث الشائعات والأخبار الكاذبة والتشهير؟ هناك أيضاً الاختراعات الجديدة التي تولد كل يوم، مثل خدمة Formspring التي لا تعرف فيها من يسأل، ربما ولا من يجيب، رغم أنهما قد يخوضان في أكثر المواضيع حساسية وخطورة وشخصية.

 في مثل هذا الوقت من العام الماضي، كنت أحضّر لمقالة "التدوين يكسر احتكار الكلام". قرأتُ وقتها بعض الأنظمة التي تستخدمها بعض الدول لمحاصرة مستخدمي الإنترنت، كضرورة تسجيل المدونة عند جهة رسمية. فكرتُ وقتها أنه من الجيد أن هذا لا يحدث عندنا. لنتخيل الآن شكل الإنترنت إذا تم تنظيمه وفق مشروع التنظيم، وسنتخيله حسب وصف الوزارة للتنظيم. تخيل أنك بحاجة إلى تقديم نفسك للوزارة كـ(مرجعية) لمدوّنتك، رابط المدوّنة مع اسمك الرباعي ورقم بطاقة الأحوال.

 بعد عدة أيام حدث ما يستفزك للكتابة عنه، مطر مثلاً أغرق الحيّ الذي تسكنه، هل ستفتح جهازك لتكتب بتلقائية كما كنت تفعل عادة أم ستقضي الوقت أمام الشاشة تأكل أظافرك وتفكر في عواقب الكتابة (خاصة أن أحداً لم يطلب منك الكلام)؟ أو تخيل مالك المنتدى الذي اعتدت الكتابة فيه، قام بتسجيل نفسه كـ(مرجعية) مسؤولة عن هذا المنتدى، وبعد التسجيل بدأ المالك يشعر بقلق ومغص في قلبه من عواقب ما يجري في المنتدى . ثم خلال بضعة أيام تالية سيقوم بحذف نصف أرشيف المكان ويتدخل تحريرياً في كل موضوع يكتبه عضو، فهو غير مستعد لتحمل ذنب ما يقوله الآخرون، معه حق! ربما في مرحلة لاحقة مع تطوير التنظيم و(تنقيحه) سيمتد ليشمل تويتر مثلاً، وسيتم إصدار بطاقات تصريح لاستخدام كل موقع تحمل صورتك بالشماغ (وربما سنتعارك وقتها قليلاً على مسألة وجود صورة المرأة في تصريح الموقع الإلكتروني)، ثم في تطوير لاحق و"للتسهيل على المستخدمين وفق أحدث الأنظمة العالمية" سيتم دمج تصاريح جميع المواقع في بطاقة واحدة صغيرة يمكنك وضعها بأناقة إلى جوار كرت العائلة الصغير في محفظتك، أبناؤك ومواقعك جنباً إلى جنب، و"يتربون بعزّك". أعلم أن هذا خيال مُفرط، لكن حتى "الأخ الأكبر يراقبك" رغم خيالية الفكرة كانت تعبر عن جوهر حقيقي.

 مثل نكتة الرجل العجوز الذي اتهم زوجته بالصمم ثم تبين لاحقاً أنه هو الأصمّ . منذ بدايات الإنترنت كانت أكثر حكمة رددها الخبراء وحتى المستخدمون العاديون هي استحالة السيطرة، عبثية محاولة السيطرة ذاتها. وبدا مُشجّعو السيطرة والتحكم كالأصمّ العجوز.

أفكر الآن أننا نحن في الواقع من كان بهِ صمم وأننا لم نسمع الفريق الآخر وهو يردد بهدوء: "Yes, We Can"، ويبدو أنه يستطيع فعلا، وأن علينا أن نخشى هذا جديا.

 إنترنت منظمة ومنضبطة؟ ما أصعب السير في الطريق عندما تعكس الاتجاه، خاصة إذا كان هذا هو الطريق الذي يمشي عليه كل العالم.