يرتبط التاريخ الحضارى الاجتماعي للمجتمع السعودي، بإطاره وظروفه وبيئته الجغرافية، حيث يمكن القول إن كثيرا من أشكال التغيير المادي والاجتماعي في هذا المجتمع قد ولدتها ظروف البيئة الجغرافية وساعدت عليها إلى حد بعيد.

فقد أدى اختلاف الظروف الجغرافية، ليس فقط إلى اختلاط المناشط الاجتماعية والاقتصادية بل إنه كان يدفع المجتمع أو بعض أفراده إلى الانتقال من مكان إلى آخر مما أدى إلى تباين التنظيم الاجتماعي؛ فنظرا لاتساع الأرض في شبه الجزيرة العربية كانت الغالبية العظمى من المجتمع السعودي تهرع إلى المدن تترك الحياة القبلية، علما بأنه كان سكان البادية يمثلون أكثر من نصف تعداد سكان المملكة العربية السعودية، وهم بذلك يشكلون أساس المجتمع القبلي في السعودية، وكما يذكر فؤاد إسحق الخوري أن: "القبيلة تنظيم اجتماعى يوجد فيه عدة تصنيفات معيشية في المجتمع العربي".

أما التصنيفات كالرهط والعشيرة والفخذ... الخ، فتندرج تحت هذا التنظيم الاجتماعي، أما القبيلة ففي أصلها مجتمع عقائدي وسياسي وإداري وقضائي.

ويحكم البدوي في سلوكه أمران هما: القوة، والرأي العام. ويقف الرأي العام - أو الخوف من اللوم - خلف قانون "شرف الصحراء"، ومن أهم موارد هذا القانون غير المكتوب تضامن البدوي مع رجال قبيلته كالمشاركة في الثأر، وإذا وقع البدوي في دين مثلا فإنه يفقد مكانته في القبيلة، لتعارض الدين مع شريعة الصحراء وكرامة الأسرة التي هي أساس القبيلة، ومن هنا يقوم مجتمع القبيلة بصورة عامة والمجتمع العربي السعودي بصفة خاصة، على نمط العلاقات الشخصية المباشرة فنلاحظ أن هذه الروابط الاجتماعية في القبيلة تدور حول وحدة الدم أو الولاء للقبلية، حيث تفرض بعض الحقوق والالتزامات المتبادلة وتعين أنواعا معينة من السلوك، وبالتالي تمارس قدرا من السيطرة على سائر أفرادها.

وبذلك، فإن هذه الروابط الاجتماعية هي التي جعلت من كل قبيلة وحدة متماسكة تخضع لشيخ القبيلة، ولمجموعة العادات والتقاليد التي تمثل القانون القبلي، الذي نتجت عنه مجموعة المواضعات الأخلاقية، والاجتماعية، والأسرية. فقد كان مفهوم السلطة وممارستها لدى القبائل مستمدا من تنظيماتها الاجتماعية ومن أعرافها المتبعة؛ ذلك أن القبيلة والانتماء القبلي عند العرب ليس له مضمون تنظيمي، إنما هو رمز من رموز المنزلة الاجتماعية، أو من هذا القبيل. ومن هنا نجد أن الأعراف القبلية تشمل مسالك الحياة برمتها؛ فهي تتعرض لأمور المأكل والمشرب والملبس والمسكن، كما تشمل نظم النسب والتحالف والزواج والطلاق، والإرث والملكية، ويضاف إلى هذا كله أمور الضيافة والكرم، ونظم العائلة ومعاملة النساء والأطفال وأمور الشرف والعرض، والعار والفضيحة، وبذلك نجد أن: "الأعراف القبلية تضع كل من ينتمى إليها من العشائر والقبائل في مراتب ومنازل مميزة ومتفرقة تهدف إلى التميز والتخصيص والحصر ولا تهدف إلى التعميم والتغيير".

وهكذا تشكل الأعراف القبلية جزءا أساسيا من "هوية" أبناء القبيلة لتميزهم عن أبناء القبائل الأخرى، في الوقت نفسه تدعوهم إلى الانتماء برابطة وشعور "وطني" - ويمكن القول "قبلي" - داخل هذه القبيلة.

وتكمن أهمية الأعراف القبلية في سلطتها داخل القبيلة، وهي تقوم على خمس قواعد مترابطة يمكن تلخيصها فيما يأتي:

1- خاصية الأعراف وشمولها بحيث يصبح لكل عشيرة أو قبيلة "عرف" خاص بها يميزها عن باقي العشائر أو القبائل.

2- الأصول، أو تنظيم النسب الدموي والتدرج السلالي بشكل يتوافق مع توزيع المراعي والغنائم ومناصب القوة والنفوذ في القبيلة.

3- تحكم الجماعة بمسلك الفرد من ناحية الزواج أو الثأر أو الفدية أو غيرها من النشاطات الاجتماعية.

4- يأتي على قمة تنظيم القبيلة الشيخ، وهو أكبر أفرادها سنا وأكثرهم تجربة، وأشهرهم تمثلا للحمية، بحيث يمثل أفراد القبيلة في كل معاملاتها مع الغير، وكان هو الذي يجمع ضريبة "الخوة" التي يقدمها أنصاف البدو والتجار والفلاحون والقوافل، وبذلك يصبح شيخ القبيلة مسؤولا عن نفقات أفرادها، فقد كان بمثابة الحكومة المركزية فيها. أما التقسيمات القبلية، كالعشيرة، والفصيلة، والبطن، والفخذ والحمولة، والعمارة، والرهط وغيرها، فهي ألفاظ تدل على مستويات مختلفة في التنظيم الاجتماعي، ولا تدل على طرق العيش والكسب التي تحدد مراتب القبائل ومنزلتها، وبذلك يكون انطلاق المجتمع إلى التطور بفضل فكرة الدولة المركزية التي انشأها المفغور له ـ بإذن الله ـ الملك عبدالعزيز، حيث وضع باختصار كل الأنظمة الحكومية الحديثة تنظيما لكافة الأعمال، والأنشطة العامة والخاصة، وتبعا لمقتضيات التنمية، وبهذه الأنظمة الحديثة استطاع أن يغير الكثير في البنية الأساسية للمجتمع، وأن يضع بداية سياسات التنمية الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، في حين أنه أدرك أن البداوة تشكل إحدى الخصائص المهمة في المجتمع، وعنصرا بشريا رئيسا من عناصره، ومن ثم كان اهتمامه بالنهوض بهم؛ لأنهم يمثلون السلسلة الفقرية للدولة وعمادها، فكان ربطهم بالأرض واستقرارهم بها مطلبا أساسيا لتحقيق التقدم. كما أنه وضع ما يسمى بـ "سياسة الهجر"، فألزم البدو الرحل ببناء مساكن قائمة ودائمة ثم شق الطرق لربطها بباقي أجزاء المملكة، وكانت فكرة عبقرية عملت على قيام كيان الدولة واستقرارها. وقد كان تدفق النفط، هو السبب المباشر في عمليات التحديث والتصينع التي تعرض لها المجتمع السعودي خلال السنوات الماضية، والتي أدت إلى نتيجتين: الأولى؛ انتقال الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد شبه الحديث، القائم على تصدير النفط، والتوسع في ضوء الإدارة الحكومية المركزية. والثانية؛ نشأت شريحة اجتماعية جديدة تعرف باسم الطبقة الوسطى الجديدة، والتي تنقسم بدورها وفقا للأسس المهنية والتعليمية إلى شريحتين: "العليا"؛ وتشمل المهندسين والمحاسبين والصيادلة ومدرسي المعاهد والجامعات، وشاغلي الوظائف العليا الحكومية، والشريحة الثانية تتكون من العمال المهرة في الصناعات، ومدرسي المدراس الابتدائية ومتوسطي التعليم".

كانت بداية التطور والتحديث بتوطين عدد من القبائل، ومدها بالخدمات الضرورية، فضلا عن المخصصات المالية، التي كانت السبب في ظهور الطبقة الوسطى الجديدة في المملكة. ومع التوسع في عمليات التنمية، كان السماح بتدفق العمالة غير السعودية إلى البلاد للمشاركة في إنشاء البنية الأساسية. وكان التوسع في التعليم من أهم المظاهر العامة للتغيير الاجتماعي في السعودية. وبهذا نستطيع القول إن هذا التطور والتحديث في المملكة، قد جاءا في زمن قياسي بالنسبة لبناء الأمم وتطور الحضارات، إذا ما قسنا هذه السنوات بالزمن الحضاري، الذي يعد مجرد سويعات بالقياس الحضاري! إلا أن هناك كثيرا من مشكلات التحديث وأهمها، تلك الطفرة التكنولوجية والاتصالات والإعلام في زمن لم يكن ممهدا لاستقبال تلك الوسائل بوعي، وأيضا الوعي في التلقي بهذه الوسائل؛ فالتلقي يحتاج إلى توسع في الوعي والمعرفة. كما أن من أهم هذه المشكلات استقدام العمالة؛ لما يؤدي إليه من تخلخل البنية الاجتماعية واختلاط الأعراف والمفاهيم، والتأثير بشكل غير مباشر على الهوية. وذلك لأن تعريف الهوية هو (الهو. هو)؛ أي الذي هو قائم بذاته غير مختلط بغيره! فعلى دعاة التغيير أن يمعنوا النظر في ذلك التغيير الذي حدث في غضون سويعات بمقياس الحضارة! حيث تغيرت من صحراء وقبائل وبدو رحل إلى دولة يقف العالم لها تقديرا.