نشأت الثقافة الإسلامية التي شكلت الحضارة الإسلامية، مع أول ظهور للرسالة المحمدية في مكة المكرمة، وتعاظمت تالياً مع تقدم المسلمين الحربي شمالاً وشرقاً وغرباً خارج نطاق الجزيرة العربية، وبدأت في رسم معالم خاصة هجينة، أسست مجتمعات تذوب داخلها كل الأعراق والأجناس، محطمة ضمنياً في أسسها أية اشتراطات عنصرية، ونتيجة لتلاقي الأيديولوجيا الإسلامية مع حضارات وتجارب الشعوب الأخرى، ظهرت براعة الحضارة الإسلامية بمستوى عال من الوعي والقوة، وأثرت وأضافت إلى المنجز الإنساني بعداً جديداً، بفضل الامتزاج الخلاق الذي حدث بينها وبين المنجز الحضاري للثقافات الأخرى، واستمرت مبدعة ومؤثرة تاريخيا زمنا طويلاً، جعل منها منارة عظيمة للعالم من حولها.

لكن هذه الحضارة الإسلامية كغيرها من الحضارات الإنسانية مرت بمراحل الضعف والتقهقر، وبدأت في التنازل عن مكتسباتها رويداً رويداً على غفلة منها، لتخليها عن التعددية الثقافية الفكرية، وهي التي قدمت الإسلام إشعاعا للحضارات الأخرى عن طريق (الإقناع العقلي) والتطبيق الفعلي، كمنهج سلوكي بارع، لا عن طريق تقديم المعجزات والخوارق كما فعلت الديانات الأخرى، بل الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، وهو ما أفضى دائماً إلى تشكل العقلية الإسلامية الحيوية المبدعة، وتسيدها كقائدة لحركة النهضة الثقافية والفكرية والاقتصادية الهائلة للدولة الإسلامية، وكذلك من خلال التطبيق العملي للمفاهيم الإسلامية، المؤكدة على سمو الأخلاق والتسامح والعدل والمساواة.

لكن أحد أسوأ ما حدث في تاريخها المجيد، تمثل في ظهور مدرسة تحريم العلوم الإنسانية كالفلسفة (علم الكلام) وعلم المنطق والفنون وغيرها، في القرن الخامس الهجري على يد أبو حامد الغزالي، فتعطل أحد أهم روافد الفكر والثقافة في الحضارة الإسلامية، ليقع جزء مهم من الوعي الإسلامي في قبضة المشروع السياسي الحاكم، ولتبدأ رحلة (تسييس) الدين، وتغيير مبدأ (الحاكم في خدمة الدين)، الذي كان قائماً في عهود الخلفاء الراشدين الأربعة "أبوبكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب" رضي الله عنهم جميعاً، وتتربع لعبة المصالح السياسية على رأس هرم المفهوم الديني بطريقة فجة ولا أخلاقية أحيانا، وقد كان للخليفة العباسي "المأمون" دور في بدء تقريب الأطروحات الدينية المختلفة في عهده، كسياسة ليكسب من خلالها معظم الفرق الدينية وتوجهاتها، ثم ما لبث أن قرب جماعة المعتزلة واعتنق فكرهم، وليمتد ذلك إلى عهد الخليفة العباسي "المتوكل"، الذي عطل الفكر المعتزلي وقرب الفكر الأشعري، لتكون مثل هذه التحولات الجوهرية وما شابهها لاحقاً، سبباً في تجزئة النصوص الدينية، وخلخلة تماسك المنظومة الاجتماعية للدولة الإسلامية، والخلل الأبرز لتأخر الأمة الإسلامية فكرياً وحضارياً، ناهيك عن دخول كثير من الأعاجم على خط القرار السياسي للدولة، وتأثيرهم البالغ في بنية الدولة الإسلامية، وظهور عصور طويلة من الاستبداد السياسي المقيت، والجدل الديني الفكري المتنامي والمدعوم بعصبية الأنا ونحن وهم، ليمتد الحال المترنح للعالم الإسلامي وحضارته إلى عصرنا الحاضر مع الأسف، وفي ذلك يقول أستاذ الفلسفة الإسلامية الدكتور "حامد طاهر" في بحثه الذي قدمه في المؤتمر الدولي السادس للفلسفة الإسلامية بعنوان "مشكلة التخلف الحضاري عند المسلمين": "لعب الفقهاء ورجال الدين دورا بارزاً سواء بقصد أو بدون في استفحال هذا الاستبداد، وعن ذلك يقول خير الدين التونسي، الذي عزا عوائق التقدم في العالم الإسلامي إلى طائفتين: رجال الدين الذين يعلمون الشريعة بحذافيرها ولا يعرفون أحوال الدنيا، ويريدون تطبيق الشريعة بحذافيرها دون مراعاة المستحدثات، ورجال السياسة الذين يعرفون الدنيا ولا يعرفون الشريعة، وعنده لابد لقيام الدولة المتحضرة من ركنين أساسيين، لا يقوم التحضر في مجتمع ما إلا بهما، وهما العدل والحرية اللذان يتبعان العمران والازدهار، أما الظلم والاستبداد فلا ينتج عنهما إلا التخلف والخراب وهذا قانون اجتماعي لا يتخلف".

وهنا تجدر الاشارة إلى أن تلك الفترات التاريخية السياسية العصيبة التي مرت بها الدولة الإسلامية، قد خيمت بظلالها القبيحة على النموذج الفكري الإسلامي الصحيح، ذلك النموذج الذي منح العقل مساحات عريضة لتقديم نفسه وعبقريته، وأخلت بتوازنه وعبثت بمقدراته التاريخية إلى يومنا هذا، وجعلته يعيش حالة من الغيبوبة الذهنية والفقر الفكري، وكأنما تعطلت بوصلة طريق عودة العنفوان الحضاري للعقل الإسلامي، ولكن لمصلحة من كل هذا التغييب للعقل المسلم، وإلى متى؟