لمحت ذلك العنوان المستفز، والمنبعث من ركام المؤلفات في مكتبة تجارية في مدينة جدة "قصائد لم تنشر للشاعر حمزة شحاتة"، عنوان مثير للدهشة لما يمثله شحاتة من مهابة شعرية، وتمثلات فكرية ومكون اجتراحي مبدع، وتدفق شعري مغاير، حملت ذلك الأثر بفرح مأمول ومتعة قرائية فائضة، ولكنها لم تدم كثيراً، فالكتاب مثقل بالمفارقات والتناقضات والتأويل الصادم، حين تضللك في الصفحة الأولى وتعطل حواسك المندفعة تلك الإشارة واللافتة الدراماتيكية المريعة (تنويه واعتذار)، "تم الانتباه بعد طباعة الكتاب إلى حدوث خطأ، تمثل في إدراج سبع قصائد ليست للشاعر، بل لشعراء آخرين كانت مختلطة مع بعض قصائد الشاعر، لذا فقد تم إزالة هذه القصائد السبع مع الاعتذار للقارئ الكريم عن هذا الخطأ"، هنا تستشعر الإحساس بالخيبة والانكسار، عبر تعاشق إيحائي وتداخل متخم بالشك والريبة في كل ما ستقرؤه من قصائد أخرى، وستعصف بك حالة من الاحتمالات المتشابكة والهواجس المتداعية والإيهامية والمتعالقة مع ذلك "التنويه"، فهل ستسلم وتحترز ذائقتنا الشعرية وتقبل وهي مطمئنة، أن حمزة شحاتة هو من يقول: "ما لي أراها لا ترد سلامي.. هل حرمت عند اللقاء كلامي؟، أم ذاك شأن الغيد يبدين الجفا.. وفؤادهن من الصبابة دامي؟"، إلى أن يقول: "ما كان يبكي ليله كي تضحكي.. ما كان يسهر ليله لتنامي"، ليس هذا التساؤل استكثاراً على حمزة شحاتة أن يقول مثل هذه الرائعة العذبة فهو "شاعر حقبة وعملاق وفيلسوف وأستاذ جيل"، كما قال الأديب الراحل "عبدالله جفري"، ولكن لنسلك هذه القصيدة وندمجها وغيرها من القصائد الواردة في الكتاب إلى الشاعر الكبير، بعيداً عن التخثرات الشكية ولننجو من غواية الارتياب والحيرة والتعميات الملتبسة. إنني أدرك مدى التعب والنصب والمعاناة والاصطبار المرهق الذي أحاط بالدكتور "غازي عبداللطيف جمجوم"، وهو ينصرف إلى البحث عن مخزونات ومفقودات وتشوفات حمزة شحاتة، بكل ما فيها من عوائق وتعقيدات، فقد عرف عن شحاتة أنه لم يكن حريصاً على الاحتفاظ بما كتب من شعر، وقد أكد هذا الشاعر محمد صالح باخطمة في كتابه "حمزة شحاتة: أيام معه"، حيث يقول ص 49 كلما سألته عن شعره قال: "عند فلان في جدة يحفظه عنده، أو عند فلان في القاهرة، وذات مرة طلبت في إصرار شيئاً من شعره لينشر في "عكاظ" فوافق وظننت أنني انتصرت انتصاراً عظيماً، ولكني ذهلت حين طلب من بناته أوراقاً تركها في مكان بشقته، وذهلت أكثر حينما أحضرنها وريقات متناثرة، ووضعنها كغطاء في المطبخ أو البوفيه وضعن عليها الأطباق والكؤوس، ولم يثر ذلك حنقه وكلفني ذلك جهداً كبيراً في إصلاح ما أفسدته بعض بقايا الماء من طمس بعض الكلمات".