هناك مشكلة يعاني منها كثير من محدودي ومتوسطي الدخل، وهم القطاع العريض في البلد، وهي غلاء تملّك السكن أو استئجاره، وكتب الكثير عن هذه المشكلة، ولكن سأكتب بعين قانونية على الموضوع، وأسلط الضوء على نقاط متعددة، وإذا كان القانون هو جوهر العمل الحكومي؛ فقد يكون لهذه النقاط دور كبير في موضوع السكن.

عندما نتحدث عن السكن وإدارة الأملاك العقارية بكل أشكالها، وكذلك باختلاف أشكال السكن من ملك وتأجير طويل الأجل وتأجير متوسط أو قصير الأجل "يومي أو أسبوعي"، فإنه للأسف لا يوجد نظام ينظم كل هذه التعاملات بشتى أشكالها ومشاكلها المتكررة! وقد سبق أن كتبت وكتب غيري مطالبا بضرورة إصدار نظام حديث ينظم هذه التعاملات، ويحفظ حقوق المواطنين من مستثمرين ومستفيدين. وللأسف فإن أغلب مشاكلنا العقارية لا تحل إلا بالطرق التقليدية من تنازل أو رضوخ للقوي، وإذا كانت كبيرة فإنها لا تُحلّ إلا بالمحكمة بعد جلسات طويلة من الترافع! بينما الفكر الإنساني الحديث متقدم جدا في هذه المجالات، وليس علينا سوى البحث عن النماذج في القوانين الحديثة ونستخلص منها ما يناسبنا.

أهمية الحديث عن نظام السكن أنها تضع أمام المستثمر صورة واضحة لطبيعة النشاط الذي أمامه، وكذلك تطمئن المستفيد على حقوقه كيف سيتم التعامل معها، كما ينص عليها النظام "المفقود حاليا"! ولو تم تنظيم هذا القطاع بشكل حديث لربما تضاعفت الاستثمارات، مما سيؤدي حتما إلى كثرة العرض وانخفاض الأسعار، ومن المفترض أن يكون هذا أولى المهمات على جدول وزارة الإسكان ووزارة البلديات.

فعلى سبيل المثال؛ لا يوجد نظام ينظم آلية واضحة تحفظ حقوق أصحاب العقارات بعد إيجارها في حال التوقف عن السداد، وعند انتهاء العقد، وعند إخلاء العقار، أو عند إخلاء العقار مع بعض التلفيات، أو عند تغيير غرض الاستئجار للعقار الذي تم التعاقد من أجله، وهكذا من المشاكل التي تجعل المستثمر يعزف عن هذا النشاط بسبب عدم وجود آلية نظامية فعالة وسريعة تحفظ حقوقه. كما أن كثيرا من الملاك في المقابل يتجاوزون حقوق المستأجرين أو يضعون شروطا مجحفة، مما يجعل الناس تعزف عن بيوت الإيجار أكثر، كل هذه القضايا تعالجها القوانين الحديثة بشكل فعال جدا.

مثال آخر يبيّن أهمية النظام وتأثيره على المستهلك؛ حيث نرى كثرة شقق التمليك، وقد عزف الناس عنها مؤخرا بسبب عدم وجود آلية نظامية تحفظ حقوقهم بعد الشراء، حيث يقعون غالبا في الصدام مع بقية الملاك فيما يتعلق بالصيانة والماء والمواقف وغيرها، ولا يوجد إلا ما يسمى بالجمعية، إلا أنها فكرة قديمة وغير فعالة نهائيا، وهناك حلول نظامية لا تُحصى ومتوفرة في نماذج القوانين الحديثة، أسهلها الإلزام لكل ملاك عقار بالتعاقد مع شركات إدارة الأملاك، وهذا وإن كانت فيه تكلفة رمزية على الملاك إلا أنها توفر عليهم الكثير من الجهد والقلق وربما المشاكل مع الجيران، ولو تم حل هذه المشاكل ونُظمت بشكل جيد؛ فإن من المؤكد أن الناس سيُقبلون على هذه الحلول الأقل تكلفة والأسهل في المعيشة، وهي أحد حلول السكن.

كثيرا ما تستهدف قوانين السكن تنظيم قضايا السكن وإدارتها بشكل حديث، بالإضافة إلى استهدافها لإيجاد الأرضية القانونية التي توفر مساكن آمنة وقابلة للسكن لجميع مستويات المجتمع. وعلى سبيل المثال؛ فإن قانون السكن والترميم البريطاني (Housing and Regeneration Act 2008) وضع آلية دقيقة في كيفية إدارة ما يسميه البيوت ذات السعر المنخفض (Low Cost accommodation) والتأكد من سلامتها وإدارتها بشكل جيد وفعال، يمكن للطبقة محدودة الدخل الاستفادة من هذه النوعية من السكن دون أن تكون عليهم أعباء مالية مجهدة، وفي نفس الوقت يضمن لهم الحد الأدنى من سلامة السكن وملاءمته، وهذا القانون بالمناسبة يقع في 269 صفحة، ويتحدث بشكل تفصيلي عن تشريعات وأحكام السكن وما يتعلق بها، حتى أحكام التخلص من بقايا البناء ومخلفاته فقد نظمها بشكل جيد، بينما لا يوجد لدينا نظام سكن أصلا وللأسف، وفي النهاية إما أن تُهدر الحقوق أو تزعج المحاكم في قضايا لا حاجة لذهابها إلى المحاكم فيما لو نُظمت.

في أميركا؛ توجد أفكار كثيرة، ومنها طرح مشاريع أو (تنظيمات) للقطاع الخاص لبناء مساكن لمحدودي الدخل، وهذا موجود في العديد من الدول، مثل مشروع الاقتطاع من الضرائب من خلال المساكن التي تكون لمحدودي الدخل (The Low Income Housing Tax Credit (LIHTC، أو Housing Tax Credits، وهذه الفكرة جُعلت حافزا لتوفير مساكن معقولة الأسعار في أميركا، بشكل تكون في متناول اليد بالنسبة لمحدودي الدخل.

هناك أفكار كثيرة ولا أدري لماذا لا تراجعها وزارة الإسكان، بالرغم من تأكدي من حرص الوزارة الشديد على إيجاد آليات سريعة. وهناك أفكار يتداولها حتى عامة الناس، مثل السماح بالبناء لعمائر الشقق إلى ثلاثة أدوار أو أكثر داخل بعض الأحياء، مع اشتراطات توفير المواقف والمساحة الملائمة، كما هو المعمول به في بعض أحياء جدة، بالرغم من الملاحظات عليها، وهذه آلية سهلة وتوفر الكثير على البلد والمواطنين، ولكن الأهم كما ذكرت أعلاه؛ هو ضرورة تنظيم ذلك بشكل حديث وفعال.

لا شك لدي أن العديد من الأفكار مطروحة أمام وزارة الإسكان، ولكن في نظري الأهم هو العمل على تنظيم الساحة قبل أي شيء، وذلك بإصدار نظام حديث ومتقن للسكن، وسيكون المفتاح الحقيقي لحل المشكلة والأرضية القانونية لكل المشاريع القادمة بإذن الله.