مازلت أتذكر فترة التسعينات الميلادية، التي نشط فيها كثير من الذين أطلقوا على أنفسهم "دعاة"، ووصفوا تلك الفترة بفترة "الصحوة"، وكأننا كنا في غفلة، أو كنا غير مسلمين، والصحوة تعني في البديهة الأولى للسماع الانتباه من النوم، كصحوة النائم، ومصدرها صحا، وصحو كقولنا سماء صحو، وما إلى ذلك من صحوة النائم، وتأتي الصحوة للانتباه من السكرة كتنويه أيضا، لكن غير المفهوم أن نصف مجتمعا مسلما بطبيعته بالغافل، وأنه بحاجة إلى أن يصحو من بؤس عقيدته، هذا ما لم يناسب طريقة تفكيري في تلك الفترة، ونجوت أنا "أبوالفواريز" ـ كما يناديني الصديق "حسين سويدي" ويعجبني منه هو ذلك كثيرا ـ من الانجرار خلف ما لم يكن مستساغا عندي، على الرغم من كمّ الدعوات والزيارات التي كان يقوم بها بعض أفراد تلك الجماعات، وكمّ الإغراءات التي كانت تعرض علي، ليس لأنني جهبذ وعارف بالأسرار، بل ببساطة لأن تربيتي الأسرية كانت مختلفة نوعا ما عن محيطي. فوالدي كان متعلما بشكل جيد جدا، ويتحدث الإنجليزية، واختلط بالكثير من المجتمعات العربية والأجنبية، في السودان ومصر واليمن والسعودية وإيطاليا، لذلك كان يرفض أن أنضم إلى أية تكتلات تبدو في نظره غير واضحة المعالم والأهداف، ويطالب دائما بتفسير منطقي مقنع للأشياء، وأرجح أن هذا كان نتيجة لانفتاح أبي على المجتمعات الإنسانية الأخرى، وملاحظاته للفروقات فيما بينها، ونجاحه في تحليل الأفعال والحوادث داخلها، وقد انتقلت هذه الطريقة التربوية إلي وإلى كل إخوتي، واستمر هذا التقدير للأمور قائما في كل عائلتي الصغيرة، فلم ينضم أي منا إلى أية مجاميع دينية أو غيرها بعد وفاته ـ رحمه الله ـ وحتى يومنا هذا.

الجميل في الأمر، أن الجولات المكوكية كانت تأتي من زملاء الدراسة وأصدقاء المدينة، الذين كانوا قد انضموا إلى تلك الجماعات، وأذكر أن معظمهم امتنع عن دخول مجلسي لوجود صورتي وصور لطلال مداح وفيروز معلقة على الجدار، وبحجة أن الملائكة لا تدخل مجلسي لوجود تلك الصور، ولاحظوا معي أن الملائكة هي من تمتنع وليسوا هم، لكنهم أصبحوا بعد الانخراط في تلك المجاميع يصنفون أنفسهم من ضمن الملائكة، ونحن من الجن والعفاريت "اللهم احفظنا"، أو ربما مخلوقات أدنى على ما أظن.

هكذا في يوم وليلة أصبحوا يؤمنون بالأشياء، ويقطعون في أمرها من غير تدبر أو بحث أو حتى رغبة في معرفة لماذا على الأقل، وأصبح "أبو الفواريز" من المغضوب عليهم وربما الضالين، وعبثا حاولت التحدث إليهم لثنيهم وإقناعهم بأن الوقوف في زقاق الحارة ليس أمرا محمودا، وأن والدتي لو علمت أنني أستقبل الناس في الشارع ستنهرني كثيرا، فما بالكم بأبي لو علم؟!

وعلى الرغم من ذلك لم أفلح، ومع تكثيف الإخوة ـ حفظهم الله ـ اضطررت لنزع تلك الصور في أحد الأيام إكراما لهم، ثم لما دخلوا خرج أحدهم مهرولا وهو يستغفر الله تعالى، وكأنه قد رأى منكرا في داري!، فهرولت خلفه وأنا أتعجب مما فعل، مبادرا بسؤالي؛ "إيش فيه ثاني يا فلان؟"، فقال: هناك صورة لذوات أرواح على شاطئ البحر في الصورة الجدارية الكبيرة على الجدار!

فانفجرت ضاحكا من الفعل والمسبب له، فقد كانت صورة لشخصين بحجم نملة سوداء نقول لها في جازان "قعموص"، وتحت ضغطه اضطررت مجددا لطمسها بمزيل الكتابة الأبيض، ليدخل بعد ذلك ويستقر مشيحا بوجهه عن المنظر الجداري!

هكذا كانت بدايات غزوة بعض مجاميع ما سمي بالصحوة، الذين اتبعوا دون أن يفكروا، ودون أن يعرفوا، ودون أن يتعلموا لماذا، وكيف، وإلى أين؟

هذه الصورة الدخيلة على المجتمع الطيب، اختطفت بعض أجزاء الهدوء والتسامح الاجتماعي، وأدخلتنا مرحلة التصنيف المقيتة، وأصبحت هناك نظرتان وشخصيتان في البيت الواحد بكل أسف، تلك الأحداث كلها كانت أول نواقيس تنبهي لأمر ما، وقراري بعدم الانجرار هكذا كيفما اتفق، أو إعطاء أية وعود قد تجعلني محل سخرية من نفسي وأمام أبي، وهو ما أسميه اليوم وبعد أكثر من عشرين عاما، بصحوة "أبو الفواريز" الأولى.