طرح الدكتور مشاري النعيم في مقالته المعنونة بـ"المدينة وصناعة ا?رهاب"، تساؤ? "شاطحا" كما نصفه بالعامية المتداولة، إذ قال: "هل يمكن أن تسهم المدينة في صناعة الإرهاب"؟

لا أنكر أن تساؤله شغل حيزا من تفكيري بالذات عندما مهد لمقالته بتغريدة تساؤل في تويتر: "هل يمكن أن تسهم المدينة في صناعة الإرهاب"؟

تمنيت أن يتم مناقشة هذا التساؤل في محاضرة أو ورشة عمل، فلدي إجابات وأسئلة وملاحظات فضلا عن الكثير من التأكيد والنفي تتصارع في عقلي.

منها مثلا أننا ‏‎دائما ما نؤمن بتأثير جغرافيا المكان على الإنسان وسلوكه، بل حتى على بنيته، وانعكاسها أيضا على أخلاقه، ويتضح هذا في سلوك ابن الصحراء، عندما ينتقل للسكن في بيئة جبلية فيستجيب لبيئته الجديدة بحسب قدرة الشخص وقابلية المكان، لكنه حتما سوف يتأثر، والعكس صحيح، فالعامل المناخي ينعكس تأثيره بيولوجيا على الجسم، مما يؤثر على الجانب الأخلاقي أي "مزاجه"، وأيضا البيئة الطبيعية عامل تكوني مهم لما له من أثر انعكاسي على تغيير مسار الإنسان وحركته، فمن يعش في بيئة صحراوية بسيطة ذات فضاء واسع تمكنه من الانطلاق، يجد البيئة الجبلية تتطلب تعقيدا عضليا وريفيا وسكنيا ينعكس على حركته وتصرفاته وأفعاله ودخله.

هذه معلومات معروفة مثبتة، أجريت عليها آلاف البحوث لتأكيدها.

لكن ما يطرحه الدكتور مشاري النعيم في مقاله عن فضاء المدينة السعودية، أنه "ضيق جدا ويدفع الشباب على وجه الخصوص إلى التشرنق"، و"أن مدننا تصنع العزلة المدينية"، و"أن الفرصة غير مواتية لبناء فكر متعدد ومتنوع لأن المجال المديني لا يسمح بهذا التنوع والتجدد".

هذا يحتاج إلى بحث وتأكيد، ليس لإثبات صحة نظرية الدكتور مشاري؛ ?ني أظن أغلبنا يعلم جيدا أن المدينة السعودية "أدارت ظهرها لنا ولم تفتح ذراعيها في يوم لنا"، ولا نحتاج لبحث وتأكيد، هنا يكفي أن نسأل جسر الملك فهد عن عدد السيارات التي تعبره إلى مملكة البحرين في عطلة نهاية الأسبوع، أو نسأل مدينة دبي عن أعداد السعوديين المقيمين فيها.

هل فعلا التخطيط العمراني له دور في هذا؟ هل ا?سوار الطويلة للفلل وتشويهها بالسواتر أبعد الجار عن جاره؟ هل الحدائق شبه المفقودة والمهملة إن وجدت لها تأثير؟ هل تحولنا إلى العمارة الذكورية دور؟ لكن هناك سؤال مهم يفرض نفسه قبل ا?جابة عن جميع الاستفسارات، وهو البحث عن السبب، نعم ما السبب الذي أدى إلى الأسوار الطويلة للفلل رغم أنها لم تكن موجودة أصلا في تراثنا العمراني؟! ما السبب خلف اختفاء الحدائق العامة في ا?حياء الجديدة وإهمالنا لما هو موجود؟! لماذا اختفت المرأة التي كانت ترحب بالضيف وتكرمه إلى أن يأتي زوجها واستبدلناها بعمارة ذكورية تجعل لكل جنس مدخلا منفصلا تماما عن الآخر؟

هل نستطيع القول: إن السبب هو اجتماعي، وتحديدا آلية الضبط ا?جتماعي أو العمليات المجتمعية والسياسية التي تنظم سلوك الفرد والجماعة في محاولة للوصول إلى الامتثال والمطابقة مع قواعد مجتمع معين أو حكومة أو فئة اجتماعية؟

في المجتمعات المتقدمة تتكفل المؤسسات والجمعيات بالضبط ا?جتماعي، لكن في مجتمعنا يرى عبدالعزيز الخضر في كتابه "السعودية سيرة دولة ومجتمع" أن آلية الضبط الاجتماعي: "حافظت على نسقيتها فكانت عاملا مساعدا في مقاومة التغيير". وذكر محمد السيف في كتابه "المدخل إلى دراسة المجتمع السعودي": "أنه لا يوجد تغير واضح في مستوى الضبط الاجتماعي يميز بين الفترة المستقرة والفترة المتغيرة كما حدث في النسق الاقتصادي".

إذ تبين أنه مازالت الثرثرة ونقل الكلام والإشاعات تعد وسيلة فعالة لتقويم سلوك الفرد في المجتمع المحلي، فمازال للرأي العام سيادته وقوته في السيطرة، ويتضح ذلك من حجم التناقض بين ما يظهر للمجتمع والقناعات الداخلية، فيتحول الغالبية مع ا?سف إلى عدة شخصيات "شخصية داخل البلد وشخصية خارجها وشخصية في العمل وأخرى للشلة والزملاء وثالثة للجمهور"، لينعكس ذلك على الفضاء العام، ويجعلها كما قال دكتور مشاري

مدننا تحث على أن يقوم سكانها بخلق فضاءاتهم الخاصة بهم"؛ كي تتناسب مع التناقض الذي أصبح خاصية اجتماعية لدينا، سمحت بخلق فضاءات خاصة أو "مدن سرية"، يمارس فيها الفرد حياته بعيدا عن السخرية والإشاعات والتشهير.

ففي كل هذه ا?جواء: هل يمكن للمدينة أن تسهم في صناعة الإرهاب؟