ينسى الجمهوريون الحقيقيون أهداف الثورة ويتخاذلون عن ربطها ببرامج تستنهض الروح الوطنية الوثابة وتستجيب لتطلعات الشعب وتعيد الاعتبار لتضحياته. على حين لا يتمالك البعض منهم نفسه للسيطرة على اندفاعاته الارتدادية والتمالئ مع الجماعات الحوثية نكاية بخاطفي الجمهورية المغدور بها من تيار الخلافة الإسلامية المزهو بالقفاز (السكسكوني) ومحطات الترانزيت الأخرى صعوداً نحو بيضة الإسلام في الإستانة! وإن كانت مداولات الخاصة من قيادات التيار حكت تشوقها إلى مركز الخلافة في ثالث مدينة تشد إليها الرحال!
للإخوان المسلمين تجربتهم التنظيمية الطويلة على امتداد الوطن العربي والعالم، ورغم انحدارها لمنبع واحد شأن الحركات السرية والتنظيمات والمحافل الأيديولوجية المغلقة، إلا أن أداءاتهم السياسية في اليمن شابتها فروق سطحية تتجوز من الوسائل النفعية والتكتيكات الانتهازية ما يجرح المعتقد وينال من نقاء العقيدة. لكن تلك الفروق وإن أثارت اهتمام بعض المتابعين لا تتعدى هامش الاجتهاد في سبيل الوصول إلى نفس الغاية.. إذ يظل الإخوان على دين الملك حيث أمكن الظفر بفرصة وهم –في العموم السائد– مع كل نظام حيث لاحت بادرة تمكين أو تناهي رنين معدن ثمين، وكثيراً ما خلعوا نعت (أمير المؤمنين) على حاكم هنا، ومدوا أيديهم لمبايعة رئيس جمهورية مستبد هناك، لينتهي الأمر مع هذا الحاكم أو ذاك الرئيس إلى الغيلة غدراً أو الانقلاب ثأراً!
ومن خصوصيات تجربتهم على الساحة اليمنية قيام ما يعرف اليوم (التجمع اليمني للإصلاح) والذي نشأ كوعاء حمائي يضم لفيفاً من شيوخ القبائل والقادة العسكريين والتجار وهو تحالف تعبوي أسس بعد قيام الوحدة، وكان الهدف منه تصفية الحزب الاشتراكي –وفقاً لمذكرات رئيس البرلمان السابق الشيخ عبدالله الأحمر– واستبعاد الجنوب من الشراكة في بناء الدولة الوليدة ومن ثم فرض معادلة جديدة تضع المحافظات الجنوبية والشرقية رهناً لتحالف الإخوان والقبيلة بقيادة اللاعب على رؤوس الثعابين.. والمهم هنا أن الكيان الإخواني (تجمع الإصلاح) أضيف عنوة إلى ثمار العهد الوحدوي وغاب عن الرؤية خلفيته التاريخية المقترنة بتدمير أهداف ثورة سبتمبر شمال الوطن، ووقوفه المبكر خلف فكرة الخلافة الإسلامية والإيعاز إلى المفاوض عن التيار الملكي بطرح مشروع الطريق الثالث (الجمهورية الإسلامية) خلال مؤتمرات المصالحة بين الجانبين.
وعلى مدى خمسة عقود من تاريخه الحديث لم يشهد اليمن حرباً أو يعاني صدعاً أو يواجه كارثة إلا كان للإخوان اليد الطولى والنفير الذائع والمغنم الأوفر في هذه الحرب أو ذاك الصدع.
احترفوا العمل الميليشاوي السري والأمني لتصفية خصومهم وفضلوا تمرير أجنداتهم السياسية من داخل السلطة على الاستعجال في الاستيلاء الكامل عليها ريثما تتهيأ الظروف الخارجية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي.. ولا ريب أن حقبة الرئيس اليمني السابق –33 عاماً– قبل وبعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية مثلت المعمل المركزي في تجربة الإسلام السياسي على إطلاقها، وتجربة الإخوان بصفة خاصة، على العكس من غزواتهم السياسية ومناشطهم التنظيمية في الأقطار العربية الأخرى.
لكن الرفاه اليمني مكلف قتّال يورث التخمة ويدمر عنصر المبادرة ويجعل مفاسد التحالف مع الحاكم السابق جزءا من إرث الجماعة وإن غاب عن السلطة أو تقمص الإخوان برد الثورة الربيعية المفخخة وخرقوا قواعدهم الفقهية حول وجوب الطاعة مهما بلغ الجور..!
ولئن كان ربيع اليمن القائظ نقل الإخوان من رفاه صالح إلى تخمة الوفاق الحكومي إلا أنه أوردهم قعر محنة لا راد لمهالكها دون تضحيات مؤلمة يقدمها التنظيم لمصلحة الشعب والدولة والوطن.. فهل يكون ذلك ممكناً أم أن وجهة أخرى يجري التخطيط لها صوب سيناريوهات داعشية تجبر الرئيس عبدربه منصور هادي ورعاة المبادرة الخليجية على أحد أمرين: إما الإصغاء لشروط التجمع اليمني للإصلاح أو مواجهة موجة عاتية من أمراض التطرف عابرة الحدود! وإزاء ذلك هل يندرج سلاح أنصار الله ضمن سنن التدافع أم أن وضعاً سيئاً يتجاوز الممكنات المرضية إلى الصرع المميت؟ وهل صحيح أن المبادرة الخليجية لا تزال تؤتي ثمارها أم أن معطيات الواقع تدعو أشقاء وجيران اليمن وفي طليعتهم المملكة لتقويم الحالة اليمنية وصوغ رؤية تأريخية معمقة ذات أفق مستقبلي؟ رؤية تنقل هذا البلد من بؤر التخلف ورهانات التطويع إلى أولى محطات الرحلة الوجودية الطويلة ودواعي المصير المشترك.
والسؤال الملح: هل من ضرورة تجبر الأشقاء ربط توجهاتهم نحو اليمن بأدوات الصراع التقليدي التي عطلت "مكنات" التطور في تاريخ اليمن الحديث، أم أن إعادة إنتاج قواعد الإعاقة تمثل جوهر السياسات الإقليمية في هذا البلد المصاب بفوضى التلقي والمنكوب بعاهات الارتهان لمختلف المخترعات الخارجية المتخصصة في استراتيجيات (فرق تسد)!