احتراماً لما تبقى من كرامة العالم العربي، علينا الاعتراف اليوم بأن جامعتنا العربية عجزت في الدفاع عن مصالحنا لأنها تفتقد الحجة والبرهان لتفنيد مزاعم المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، التي طالما وضعتنا تحت المجهر لأغراضها الملتوية وحجبت عنا "صك الغفران". وتقديراً لما تبقى من ذكاء العقل العربي، علينا الاقتناع اليوم بأن مجموعتنا العربية أخفقت في مواجهة المؤمرات المحاكة ضدها نتيجة تقصير أجهزتنا وقلة حيلة خبرائنا أمام ازدواجية معايير المنظمات الدولية لحقوق الأوطان، التي أحكمت أقنعتها الضبابية لتحقيق غاياتها وأهدافها الانتقائية.
في الأسبوع الماضي صدر تقرير لجنة تقصي الحقائق لمنظمة حقوق الإنسان "هيومان رايتس ووتش"، الذي انتقد واقعة فض اعتصام ميادين "رابعة" و"النهضة" بالقاهرة في شهر أغسطس من العام الماضي، بسبب: "وقائع القتل الممنهج، واسع النطاق، لما لا يقل عن 1150 متظاهراً بأيدي قوات الأمن المصرية، ترقى على الأرجح إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية". وبينما دعت اللجنة في تقريرها كافة المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية وأسر القتلى للتعاون معها وتزويدها بالمعلومات الحقيقية والأدلة المتوافرة لديهم، انتقدت الحكومة المصرية تقرير اللجنة ووصفته: "بالسلبية والتحيز وتجاهل العمليات الإرهابية التي تتعرض لها مصر على يد جماعة الإخوان". كما منعت السلطات المصرية المدير التنفيذي للمنظمة ومسؤولة أخرى فيها من دخول الأراضي المصرية لأسباب أمنية بعد أن تم احتجازهما بمطار القاهرة مدة 12 ساعة.
هذه المنظمة تنفرد اليوم بتوجيه اللوم للحكومة المصرية على مقتل 1150 إرهابياً، بينما تتغاضى عن جرائم القتل حول العالم التي فاقت 468000 جريمة في العام الماضي، أقتُرِفَ 31% منها في أميركا الشمالية والجنوبية، و36% في أفريقيا، و27% في آسيا، و5% في أوروبا.
وهذه المنظمة تنتقد اليوم مراقبة السلطات السعودية لرسائل البريد الإلكتروني والهاتف الجوال والرسائل النصية لأصحاب الفكر المنحرف، وتبدي امتعاضها من قسوة أحكام نظام مكافحة الإرهاب السعودي، بينما تغمض أعينها عن فضائح تجسس السلطات الأميركية على هواتف وأجهزة حلفائها في دول الاتحاد الأوروبي، وتغض الطرف عن تعسف أحكام مكافحة الإرهاب الغربية وما نتج عنها من الإضرار بسمعة شعوب العالم الإسلامي. كما أن هذه المنظمة تحتج اليوم على عدد سجناء الحق العام في دول الخليج العربية، بينما تتجاهل ارتفاع عدد سجناء أميركا إلى 2.5 مليون سجين، ليعادل 25% من كافة سجناء العالم، إضافةً لمعتقلي سجن "جوانتانامو"، الذين وصل عددهم إلى 166 سجينا، منهم 48 سجينا لم توجه لهم تهمة إلى يومنا هذا، ولم يخضعوا للمحاكمة رغماً عن مضي أكثر من 12 سنة على اعتقالهم.
منذ تأسيسها خلال عام 1978 في مدينة "نيويورك" بأميركا، أعلنت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، برئاسة "روبرت بيرنشتين" عضو المجلس اليهودي الأميركي، أنها ستحافظ على استقلاليتها باعتمادها على تبرعات المؤسسات الخاصة والأفراد وليس على الدعم المالي الحكومي. وكانت مهمة المنظمة الأساسية تقتصر على مراقبة اتفاقية "هيلسنكي" الخاصة بمتابعة مدى امتثال الدول الاشتراكية لأحكام حقوق الإنسان، إلا أنها سرعان ما أصبحت منظمة دولية في عام 1988 بانضمام 180 عضوا مهنيا لها في مختلف التخصصات ومن مختلف الجنسيات لمراقبة قضايا حقوق الإنسان والعدالة الدولية، والحرية الأكاديمية، وأوضاع السجون، وحقوق الشاذين جنسياً، وأحوال اللاجئين في شتى بقاع العالم. وإلى جانب مقرها الدائم في "نيويورك"، أصبح لدى المنظمة اليوم مكاتب فرعية في "لندن"، و"بروكسل" و"موسكو" و"سان فرانسيسكو" و"هونغ كونغ" و"واشنطن" و"لوس أنجلوس". وفي عام 1997 فازت المنظمة بجائزة نوبل للسلام نتيجة جهودها لمناهضة استخدام الألغام الأرضية.
منظمة "هيومن رايتس ووتش" لحقوق الإنسان لا تختلف في معاييرها المزدوجة عن منظمة الأمم المتحدة لحقوق الأوطان. فمنذ تصديق 51 دولة على ميثاقها في 24 أكتوبر 1945، تم تأسيس هذه المنظمة في مدينة "نيويورك" بأميركا، كما تم تحديد أهدافها الأربعة الرامية لصون السلام والأمن الدوليين، وتنمية العلاقات الودية بين الدول، وتحقيق التعاون على حل المشاكل الدولية، وتعزيز احترام حقوق الإنسان. ولتحقيق غاياتها أنشأت المنظمة 6 أجهزة رئيسة، يقع 5 منها في مقرها الرئيس وهي: الجمعية العامة، ومجلس الأمن، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس الوصاية والأمانة العامة، بينما يقع المقر السادس، وهو محكمة العدل الدولية، في مدينة "لاهاي" بهولندا.
لتاريخ اليوم، أصدرت منظمة الأمم المتحدة 2167 قراراً، منها 807 قرارت لصالح القضية الفلسطينية، ذهبت جميعها أدراج الرياح. كما أصدرت الجمعية العامة 602 قرار لصالح فلسطين، عارضت أميركا 305 منها وامتنعت عن التصويت على 78 قرارا. لذا تصدرت أميركا قائمة المعارضين للقرارات الدولية التي تصدر لصالح المجموعة العربية، عدا عن استخدامها حق النقض وتربعها على عرش تأييدها لإسرائيل بلا منازع.
أما لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة فلقد أصدرت 20 قراراً، نصت معظمها على إدانة سياسات إسرائيل وممارساتها التي تمس حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، وحظيت بمعارضة أميركا لهذه القرارات أيضاً.
ضياع حقوقنا في عصرنا الحديث جاء نتيجة حتمية لتراجع ما تبقى من قدرات جامعتنا العربية لجهل خبرائها التام بقواعد اللعبة الدولية المعقدة، التي أصبحت اليوم أكثر اعتماداً على توجيه دفة العولمة لصالحنا، من خلال تحديث معلوماتنا الواقعية وإحصائياتنا الدقيقة عن مساوئ الدول الأخرى واستهتارها بمبادئ حقوق الإنسان، لكشف نقاط ضعفها ودرء افتراءاتها ومواجهتها بالحجج الدامغة، وإلا فإن جامعتنا العربية لن تستحق "صك الغفران" من المنظمات الدولية.