أكدت المقالة الماضية على أن الشاعر الحديث أصبح يهتم بالتشكيل البصري، فيكتب قصيدته بطريقة تسهم في رسم الصورة، أو تفرض على القارئ طريقة معينة في الأداء، وبلغ حرص بعضهم على ذلك حدود التصريح به، وهو ما كان عند فاطمة القرني، مما تنطبق عليه فكرة، أو نظرية، تجويد الشعر التي طرحها الدكتور محمد الصفراني.
ومن الشواهد الدالة على أنها تهدف إلى توجيه القارئ نحو الطريقة التي تريد أن يقرأ بها النص، وكأنها تقول له: اقرأ كما أقرأ، قولها:
..أفيق.. كل يوم..
في فمي..
لحن ابتسام واعد..
بالرغد من حلمي.. يطل..
يستهل.. العابرين..
بالرضا..
منغما..
منغما..
مــنغــما..!
فهي تكرر مفردة: "منغما"، تكرارا يشي بأنها تتلذذ بتخيلات النغم الذي تمنته، أو حلمت به، أو حرمت منه، أو عاشته فترة، وغابت عنه أخرى، فزادت على معنى التنغيم بالتكرار، مصورة أمنيتها الصوتية من خلال معنى اللفظة أولا، ثم أوجدت النغمة ماثلة من خلال تكرارها، لتتجسد بالصوت الذي لا يسمعه القارئ منها، وإنما يسمعها إياه حين يقرأ كما تريد، حتى جعلت القارئ أيضا يعيش الأمنية هامسا، أو جاهرا، من خلال اللفظة التي كتبت متدرجة كأنها سلم، لتوحي بتصاعد النغم، أو تنازله، حتى يبلغ أعلاه، أو منتهاه، في التكرار الأخير.
وتعمد أحيانا إلى تكرار كتابة الأصوات، لتوجه القارئ إلى مد الكلمة بمقدار مرات التكرار، وهو ما أطلق عليه الدكتور الصفراني: "تشكيل المد"، ومعه أيضا "تشكيل التفريق"، ويعني به تفريق حروف الكلمة، من أجل إحداث المد الصوتي، والاختلاف بين النوعين، وما يندرج تحتهما، يكمن في طريقة التشكيل، أما الهدف فلا اختلاف فيه، وهو توجيه القارئ نحو أداء اللفظة بطريقة معينة. تقول فاطمة:
طويـ ـ ـ لا.. كان هذا الصيف
... يا اااالله!
فتشكيل التفريق يظهر حين رسمت الشاعرة مفردة: "طويلا"، لتوجه القارئ إلى مد الياء عند الإلقاء، كي يكون المد موازيا للامتداد الزمني الماثل في طول الصيف، وكأن صوت الشاعرة قد وصل إلى سمع القارئ، وهي تلقي نصها، بينما صوتها غائب في الواقع.
وقد يحتاج بيان الدلالة المنتجة من التشكيل البصري، إلى معرفة مناسبة النص، ومثال ذلك قصيدتها: "استشارة". تقول عن مناسبتها: "كتبت هذه القصيدة ردا على تساؤل وردني من إحدى قارئات زاويتي بمجلة اليمامة مفاده: كم أتقاضى أجرا ماديا على ما أطالع القراء به". تقول على لسان تلك القارئة:
ويروق لي سوق الكلام..
فشجعيني..
حددي..
كم تر بـحـ ـ ــين؟!
فقد أرادت تصوير إصرار تلك القارئة على معرفة أجرها، فعمدت إلى التشكيل البصري الذي ينتج صوتا إضافيا، وذلك بالتفريق بين حرفي: الحاء، والياء، في مفردة: "تربحين"، فجاءت على هذا الشكل: "تر بـحـ ــ ــين"، وفي المد هنا إيحاء بالإصرار على السؤال رغبة في الحصول على إجابة، كما أنه يوحي بغباء السائلة.