"لا تُصالح!

ولو منحوك الذهب

أترى حين أفقأ عينيك وأضع مكانهما جوهرتين.. هل ترى؟

هي أشياء لا تُشترى!"

هذا مطلع قصيدة "لا تُصالح" الذائعة الصيت للشاعر المصري الشهير "أمل دنقل" (1940-1983)، الذي عاش في فترة الستينات الساخنة بتقلباتها الاجتماعية وصراعاتها السياسية الكبيرة خاصة مع العدو الإسرائيلي.

تشربت روحه القومية العربية وحماسة الانتماء لها، حتى ذاقت شهد الانتصار، ثم تجرعت مرارة الهزيمة مثله مثل الكثير من مُجايليه الذين تميز عليهم بأنه أصبح صوتا لرفض المصالحة. قال أمل دنقل قصيدته "لا تُصالح" مُخاطبا فيها الرئيس المصري السادات بعد محادثات كامب ديفيد وتوقيع "معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية" في السادس والعشرين من مارس عام 1979، التي عقبها تأثيرات سياسية وحالة إحباط كبيرة في الشعوب العربية كافة والمصرية خاصة.

كانت القصيدة تجيش بمشاعر "دنقل" الرافضة للمصالحة مع إسرائيل تحت أي مسمى، واختصرت ما يجول في أذهان وقلوب هذه الشعوب كافة.

أتذكر هذه القصيدة وتحديدا عبارته "لا تُصالح" مع بعض الأحداث المهمة في المجتمع التي أُعلنت مؤخرا، وأهمها إعلان وزارة الداخلية يوم الثلاثاء الماضي عن تفكيك شبكة إرهابية موزعة في ستة مناطق، والقبض على 88 شخصا ينتمون لهذه الشبكة كانوا على وشك تنفيذ عمليات إرهابية واغتيال شخصيات معروفة حسبما صرح به المتحدث الأمني لوزارة الخارجية اللواء منصور التركي، الذي جاء في بيانه أيضا: "أن من بين الثمانية والثمانين شخصا، تسعة وخمسون سبق إيقافهم على خلفية قضايا الفئة الضالة".

وبطبيعة الحال نستنتج من هذا التصريح أن هؤلاء التسعة والخمسين شخصا الذين سبق إيقافهم في قضايا لها علاقة بالإرهاب، قد خضعوا بلا شك بعد الإيقاف لبرنامج المناصحة الذي أسس منذ العام 1427، ومازال يقدم برامجه للموقوفين في مثل هذه القضايا. إضافة للإعلان المسبق للقبض على خلية "تمير" الإرهابية التي جاء في البيان التوضيحي للقبض عليها أن أحد أهم قيادييها "المانع" كان ممن قدمت لهم الدولة معونات مادية منها إنشاء مصنع للتمور، وهذا بالتأكيد بعد أن خضع لبرنامج المناصحة الذي يحاول القائمون عليه حسب أهداف تأسيسه أن ينتزعوا الخطاب المتطرف من الموقوفين، وإعادة تهيئتهم نفسيا واجتماعيا وماديا للاندماج في المجتمع بشكل معتدل يكفل السلام لهم وللوطن.

لكن الأحداث والعمليات الأمنية المحكمة التي تُنفذ بعد متابعة دقيقة وحرص على أمن الوطن والمواطنين، تكشف مرة بعد أخرى عن ورقة التوت التي تستر عورة هذا الفكر الضال الذي تعمق في أنفس هؤلاء الفئة، التي يتصدر الترويج لها وتبنيها والتخطيط لعملياتها من نجد له سوابق أمنية ومُنح فرصة للانخراط بسلام في المجتمع وأصبحوا، هم وبعض شركائهم، يمثلون المنابر الدينية كخطباء وأئمة مساجد ومعلمي قرآن في حلقات التحفيظ، وممثلي المحاكم والمجالس البلدية كشخصيات موقوفي خلية تمير. وفي هذا مؤشر مؤلم وخطير، ففيه تشويه لسماحة الإسلام واستغلال مقيت للخطاب الديني في الترويج للأفكار الإرهابية والمتطرفة، في مجتمع تعوّد منذ عشرات السنين أن يكون مستهلِكا ومتلقيا لكل شيء ممن يصدر نفسه "كشيخ دين" أو "طالب علم" أو "محتسب" لا يعارض الناس ما يطرحون، ويؤمنون بصدق خطابهم وقربه من الله بفكر مُستلب، ووعي غائب، لم تبدأ ملامحه بالتشكل إلا مؤخرا بعد الصدمات التي تعرض لها الوطن منذ سنوات من أعمال تخريبية وإرهابية على يد هذه الفئات الضالة.

قبل عدة أسابيع نُشر في حساب تويتري يحمل اسم "ويكيليكس دولة البغدادي" وعُرّف على أنه: "حساب يهتم بأسرار وخفايا تنظيم "داعش" وكيف تتم إدارته من الداخل"، نُشرت فيه أخبار عن أن البغدادي خليفة "داعش" المزعوم قد عيّن ثلاثة "ولاة" في السعودية لهذا التنظيم، وأنه يوجد عدة أتباع لهم يبلغ عددهم في بريدة وحدها نحو 300 شخص، ولم تمض أيام حتى أُعلن القبض على خلية تمير، ثم هؤلاء الثمانية والثمانين شخصا؛ وفي هذا مؤشر خطير يجب تداركه بنفس السرعة والصرامة والحذر الأمني الذي أدى للنيل منهم. فهذه الفئة تجيد التخفي كخفافيش تقتات الظلام وتتحرك فيه؛ لأنهم مدركون خطورة ما ينوون القيام به على أمن الوطن والمواطنين.

والأهم أن نعترف أن قضيتنا معهم – ومع جميع الفئات الأخرى المتطرفة مهما اختلفت مُسمياتها وانتماءاتها الفكرية ـ فكرية بحتة، لا تحتاج إلى المساومة أكثر على الأمن والاستقرار الذي ننعم به، بل يجب أن تُجتث جذورها السامة من تربة هذا الوطن بكل ما أوتينا من عزم وقوة وإصرار على الحفاظ على قيمة الأمن وقداسة الوطن.

التجارب تُثبت أن المناصحة لم تجدِ نفعا مع تقويم فكر من انحرف بتطرفه وغلوه مع الفئات الضالة، ولم يزدهم التسامح ومنح الفرص الجديدة إلا طغيانا وتمردا، وكان إطلاق سراحهم أشبه ما يكون باستراحة محارب يعاودون فيها تنظيم أفكارهم والتواصل مع التنظيمات التي ترسم لهم خططهم الشيطانية وتمدهم بالدعم والوعود.

المواجهة حاسمة وميدان النزال مع الغلو والتطرف والإرهابيين شاسع، وسيأخذ وقتا طويلا نحتاج فيه تضامن المؤسسات الحكومية والخاصة والأفراد مع الأمن، واستشعار التهديد الذي يطل برأسه علينا، وقد ضمن تمدد أطرافه في جسد المجتمع حتى تمكن. وبظني حتى نحد من انتشار هذه الأفكار، فإنه ينبغي أن نتوقف عن التنازل بالتصالح بعد المناصحة مع من ثبت معه مسبقا مشاركة أو ميل لهذه الفئات. ونقول كما قال "أمل دنقل" بطريقتنا: "لا تُناصح!".

"إن سهما أتاني من الخلف

سوف يجيئك من ألف خلف

فالدم –الآن- صار وساما وشارة ... لا تُصالح!"