تبنى ديوان المراقبة العامة، التخطيط الاستراتيجي بهدف النهوض بمهامه الرقابية بكل موضوعية وبكفاءة مهنية عالية، بالإضافة إلى مواكبة التطورات المتسارعة في حقول المراجعة والرقابة الحكومية والاستفادة من التقنيات والأساليب الحديثة في إنجاز الأعمال.
ويرى الديوان أن "الاطلاع بمهمة تزويد المقام السامي ومجلسي الوزراء والشورى بتقارير موضوعية ذات مصداقية حول أداء الأجهزة الحكومية والوضع المالي للدولة"، العمود الفقري لعمل الديوان ويمثل المحصلة النهائية لما يقوم به من مهمات لتطبيق مفهوم الرقابة الشاملة، لتمكين الجهات العليا اتخاذ القرارات المناسبة.
وعلى هذا الأساس، وضع الديوان خطتين استراتيجيتين للأعوام (1426– 1430)، و(1431-1435)، وقد شارفت الخطة الاستراتيجية الثانية على الانتهاء، وبالتالي فإن الديوان الآن في صدد إعداد مسودة الخطة الاستراتيجية الثالثة، ولدي تعليقات وملاحظات على الخطط السابقة قد تسهم في تحسين كفاءة العمل الرقابي.
وبما أن الهدف النهائي للرقابة هو وجود تقارير مهنية موضوعية وذات مصداقية لمتخذ القرار، فمن الضروري أن ينعكس تحقيق جميع أهداف الخطط الاستراتيجية على التقرير السنوي لديوان المراقبة باعتباره المحصلة النهائية لأعمال ومهام الديوان، وبالتالي يجب مناقشة أهداف الخطة وتحليلها في ضوء معايير المراجعة المتعارف عليها، فرؤية الديوان تتمثل في أن يكون جهازا رقابيا مهنيا متطورا، وبالطبع فإن المهنية تكون في الالتزام بمعايير المراجعة أولاً.
ولنأخذ في البداية كأول ملاحظة على الخطط الاستراتيجية، القيم الجوهرية للديوان وهي (الشفافية والمساءلة، الاستقلالية والحيادية، الموضوعية والمهنية، الأمانة والمصداقية)، وعلى أساس هذه القيم يفترض أنه تم وضع أهداف رئيسية في الخطة، وأهداف فرعية لتحقيقها.
فبالنسبة للشفافية والمساءلة، نجد أن الخطط الاستراتيجية خالية تماماً من أهداف أو آليات تعمل على تحقيق هذين المبدأين، كما لا توجد تعريفات أو توضيح لهما، وهنا أتساءل: هل المقصود بالشفافية نشر التقارير الرقابية للعموم؟ وهل المقصود بالمساءلة المصادقة على الحسابات المالية ومدى الالتزام بالأنظمة والتعليمات؟ هل لدى الديوان حسابات رسمية في مواقع التواصل الاجتماعي يتواصل من خلالها مع المواطنين أو الجهات ذات العلاقة؟
أما بالنسبة لباقي القيم الجوهرية، فإن الديوان أصدر في عام 1429 معايير المراجعة الحكومية، وهي عبارة عن تحديث لقواعد التدقيق الشامل الصادرة عن الديوان في عام 1403، وهذه المعايير تتضمن الحد الأدنى من القواعد الهادفة إلى تحقيق الاستقلالية والحياد، والموضوعية والمهنية والمصداقية، والسؤال المطروح هنا: هل يلتزم ديوان المراقبة العامة بهذه المعايير؟
عند مراجعة الخطط الاستراتيجية التي نشرها الديوان على موقعه الإلكتروني، نجد إشارة مقتضبة إلى أهمية وجود المعايير المهنية للرقابة ودورها في الارتقاء بالعمل الرقابي، ولكن لا نجد آليات واضحة لكيفية تطبيق المعايير ولا الالتزام بها! فعلى سبيل المثال، ينص الهدف الرئيسي الثالث من الخطة الثانية على "الإسهام في تطوير المعايير الرقابية"، وذلك عن طريق تحديث وتطوير معايير وأدلة المراجعة، وهذا الهدف ليست له علاقة بالتطبيق، أما بخصوص تطوير أساليب وإجراءات مراقبة الجودة، والتي من مهامها التأكد من الالتزام بالمعايير، فكيف يتم تحقيق ذلك في ظل رقابة مستندية تقليدية قديمة؟ فالديوان يعتمد بشكل رئيسي على التدقيق المستندي لحسابات الجهات الحكومية!
تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك فصلا كاملا في معايير المراجعة الحكومية يتعلق بمعايير العمل الميداني، ومراجعة الحسابات يتم مكتبياًّ في الديوان، وبالتالي فإن الديوان لا يمارس العمل الميداني في قطاع الرقابة المالية إلا فيما ندر في بعض العقود الحكومية، ولا يتم تطبيق المعايير بسبب أن هذه المهام تتعلق فقط بالتأكد من تطبيق شروط ومواصفات العقود.
قد يقول قائل بأن "هناك مكاتب ميدانية للديوان في الجهات الحكومية، وبالتالي فإن الرقابة تتم ميدانيا"، وأقول: المكاتب الميدانية لا تمارس المراجعة بمفهومها المهني وإنما تدقيق مستندي مكتبي أيضا لا يختلف عن التدقيق في المركز الرئيسي للديوان وهذا الأسلوب له مساوئ وسلبيات كثيرة، لا مجال لذكرها هنا.
إذاً، المشكلة الرئيسية التي تواجه الديوان في مجال الرقابة المالية تتمثل في منهجية وأسلوب الرقابة المستندية والتي تشكل عائقا كبيرا لتطبيق معايير المراجعة، والخطط الاستراتيجية لم تتطرق إلى هذه المشكلة على الإطلاق، بل نجدها تؤكد على تطبيق الأسلوب القديم من خلال تحويله إلى نظم آلية كما جاء في الهدف الاستراتيجي الأول من الخطة الثانية!
وبناءً على ما سبق، فإن الديوان لن يستطيع تحقيق المهنية في ظل عدم تغيير المنهجية الرقابية للمراجعة المالية من الأساس، وهذا ينعكس بالسلب على التقرير السنوي للديوان، أما بالنسبة لقطاع الرقابة على الأداء، فهناك دليل لكيفية تطبيق هذا النوع من الرقابة، ولكن نجد الاستراتيجية لا تتوافق مع هذا الدليل.
فالهدف الاستراتيجي الثاني من الخطة الثانية ينص على "التوسع في تطبيق رقابة الأداء" من خلال العمل على زيادة عدد المهام المنفذة سنويا، وهذا الهدف مكرر وقد سبق التطرق إليه في الخطة الأولى! كما أن هذا الهدف مخالف للمعايير الخاصة باختيار مهام رقابة الأداء، التي تعتمد على الأهمية النسبية والقابلية وإمكانية التغيير، كما أن ذلك يؤدي إلى الإخلال بالإجراءات المهنية المحددة في إرشادات الرقابة على الأداء الصادرة عن لجنة معايير الإنتوساي الرقابية (ISSAI 3000 وISSAI 3100)، وقد تمت الإشارة إلى ذلك في الفقرتين (3-1) و(4-1) من المعيار (ISSAI 3100).
وفي النهاية من الضروري أن تكون القيم الجوهرية للديوان هي القاعدة الرئيسية للخطة الاستراتيجية الثالثة، مع دراسة وتحليل الملاحظات الواردة على الخطط السابقة، والنظر في تغيير منهجية الرقابة وتطبيق معايير المراجعة، فهي الطريق إلى المهنية، والطريق إلى تفعيل الشفافية والمساءلة في النظام المالي الحكومي في سبيل تقديم تقارير مهنية ذات مصداقية للمقام السامي ومجلسي الوزراء والشورى.