سألني وهو تحت وطأة الدهشة والحيرة، عن مقولة أطلقها عليه الأديب "أحمد التيهاني"، حين نعت شعريته ولغته بـ"البستانية" أهو توصيف محقون بالمدح أم الذم؟ قلت له: أنت تتعاطى الشعر على استحياء وممازجة، مما دفع الناقد إلى تحسس مواطن البوح في معجمك، وانبثاقات عقلك الشعري، فلمس استئناسك ولوذك بالأرض ولحم الأرض وسطوة الواقع على مفاصل مخزونك المستدام، وما توشيه من مروياتك الشعرية، وما يستشري في ثناياه من لغة يكسوها الاخضرار وتعاليات الطبيعة، قال: تلك وظيفة دلالية وسياقية في نسيجي الشعري، حين أتماهى وأشتبك مع التراب، داخل شجى متصاعد في داخلي، وطفح متنام أمتح منه والتفت إليه كلما أبصرت الوجه العابث في الحياة، فالبستانية تشعرني بالوداعة والألفة ومطارحة المعاش، حين أضفي المشاعر الإنسانية عليها، فتتحول إلى كائنات حية أحاورها وأبثها مكنونات ألمي وتباريح لوعتي وفرحي وحزني، فتتقمص بدورها الواقع التخييلي، سواء مجازي أو رمزي، حين تلتحم بالموجودات وما يفيض منها من عناصر حياتية ومديات جمالية واستجابات دافقة في الفضاء الشعري، فوجودها يمنح النص كما أعتقد شكلاً عفوياً ومهاداً يستحث المخيلة ويضيء سراديبها، فلا تتحول إلى كهف مغلق. إنني نبت الأرض مسكون باستنطاقها معني بترميم ذاكرتها. قلت له: ولكنك كمن دخل القرية ولم يخرج منها أو يغادرها، نتيجة مغالاتك وكثافة استزراعك لذلك القاموس اللفظي والاتكاء على نبرته ومعانيه الحسية، ولذا "قلت له ضاحكاً" ستتوقف عن غنائك ومروياتك قريباً، وستصاب بالخرس الشعري، وتتنازل عن معجمك النباتي، إذا علمت أن مديرية الدفاع المدني في عسير ذكرت لصحيفة "مكة" أن الحرائق أتت على 70 ألف متر من غابات عسير، حيث أوضح الناطق الرسمي العقيد "محمد العاصمي" ذلك، لكون المنطقة تعاني جفافاً قاسياً بسبب قلة المطر وتيبس الغطاء النباتي، بالإضافة إلى نشاط كبير للرياح أسهم في انتشار الحرائق وتمددها. وأضاف المتحدث "أن معظم الأشجار المتضررة هي أشجار العرعر والطلح المعمرة، والتي تمثل ثروة نباتية كبيرة في المنطقة، وفقدانها تحت وطأة هذه الحرائق، يعد جريمة في حق الطبيعة والهوية البيئية لمنطقة عسير، التي عانت سنوات من الجفاف والتصحر والإهمال". أشاح بوجهه كما يفعل مجنون التراب، ومطعون الوجدان وتلفع وجهه بالحزن والغموض ومرارات السأم، وشعر أنه كالسحابة التي لا وطن لها، أو طائر ريفي دفعته الريح إلى سماوات مدينة بلا قلب، وسمعه العابرون يهذي في الطرقات "لم تعد بستانية كما يقول "التيهاني"، ولكنها رمادية".