يقول الخبر المنشور في الصحف المحلية، إن "جهات عليا وجّهت تعميماً لكل جهة ومصلحة حكومية بأن توفر لمنسوبيها والمستفيدين من خدماتها بيئة عمل مادية تتواكب مع المعايير المتعارف عليها، وتسهم في رفع كفاءة الأداء والإنتاجية".

وجاء في التعميم السابق، أن وزارة الخدمة المدنية ستقوم بإعداد دليل إرشادي شامل لبيئة العمل المادية للجهات الحكومية لنشر ثقافة هذه البيئة، وإرسال هذا الدليل إلى الجهات الحكومية لإبداء المرئيات تمهيداً لإقراره، وذلك بهدف تحسين بيئة العمل في تلك الجهات لرفع كفاءة أداء الموظفين وتحقيق رضاهم.

وتعرّف بيئة العمل في أدبيات الإدارة، بأنها الحيز الذي يمارس فيه البشر أنشطة حياتهم الوظيفية، وهي تعني الرؤساء والموظفين والمستفيدين، والتقنيات والتشريعات واللوائح، والنظم والسياسات التي تعمل الجهة الحكومية بموجبها.

وتختلف عوامل ومتغيرات بيئة العمل فيما بينها من جهة حكومية إلى أخرى، والتي لها تأثير على الرضا الوظيفي وتحسين الأداء، فهناك عامل العلاقة بين الرئيس ومرؤوسيه، وهذا العامل يعتبر من أهم أركان بيئة العمل، بالإضافة إلى مدى تناسب الواجبات الوظيفية أو الوصف الوظيفي مع قدرات وإمكانات الموظفين، ومدى وضوح السلطات والمسؤوليات، وأخيراً عامل الثقافة التنظيمية وبيئة العمل المادية.

وحسب التعميم السابق فإن المقصود ببيئة العمل هو البيئة المادية، والتي تعني الظروف المحيطة بمكان العمل من إضاءة وتهوية ونظافة وترتيب الأثاث بالإضافة إلى التجهيزات الفنية المساعدة في مكان العمل مثل الاتصالات وأجهزة الحاسب الآلي وآلات الطباعة والتصوير وغيرها.

وفي هذا الصدد يقول بعض المختصين إن "هناك تباطؤًا في تحسين البيئة الإدارية في بعض المؤسسات الحكومية، لاسيما ذات الطابع الخدمي، مما يؤكد الحاجة لبرامج تدريبية وتوعوية مكثفة مع عرض تجارب ناجحة لبعض المؤسسات والشركات والجامعات التي تولي بيئة العمل كل اهتمام"!

في اعتقادي، الجهات الحكومية ليست بحاجة إلى أدلة إرشادية أو معايير خاصة ببيئة العمل المادية، أو الحاجة إلى برامج تدريبية وتوعية مكثفة، فمعايير بيئة العمل المادية نجدها في مكاتب معالي الوزراء والرؤساء ومكاتب سعادة مديري العموم! لعلي لا أبالغ إن قلت إن بيئة العمل المادية في مكاتب أصحاب المعالي والسعادة وكبار الموظفين، بيئة نموذجية قد تفوق كافة المعايير المثالية المتعارف عليها، فنجد أطقما مفروشات فخمة، ومساحات واسعة، وأثاث مكاتب لا تقل قيمتها عن مئات الألوف، وروائح من أجود أنواع العطور والبخور، بالإضافة إلى وجود الورود والأزهار الطبيعية تزين كل زاوية في المكان. ناهيك عن التكييف والتهوية والإضاءة المناسبة والنظافة اليومية، والصيانة على مدى 24 ساعة، ووجود الأماكن المخصصة للاستراحة، والصلاة وغرف الاجتماعات الفخمة المزودة بأحدث التقنيات مع وجود أحدث أجهزة الاتصالات والحاسب الآلي والتقنيات الأخرى وأخيراً وجود متطلبات الأمن والسلامة.

وليس هذا وحسب، بل يتم استثناء كبار الموظفين من الحضور المبكر إلى العمل حتى يتم تفادي الازدحام والضوضاء، وإعطاؤهم خارج دوام مفتوح يصل إلى نصف الراتب شهرياً، بالإضافة إلى الانضمام إلى الوفود المشاركة في المؤتمرات والندوات التي تقام في الخارج، ولهم الأولوية في الترقيات والانتدابات والبرامج التدريبية!

أما بالنسبة لباقي الإدارات والأقسام في بعض الجهات الحكومية، فالأوضاع البيئية مزرية: مياه ملوثة، روائح الصرف الصحي تنتشر في كل مكان، مكاتب وأثاث مهترئ وإضاءة وتهوية ونظافة سيئة، ونوافذ محطمة، انتشار الغبار وعوادم السيارات من الخارج وعدم وجود مواقف سيارات مخصصة للموظفين وللمراجعين.

والتجهيزات المساندة قديمة وبلا صيانة، وهي من مخلفات مكاتب كبار الموظفين التي تم الاستغناء عنها، والملفات والأوراق متناثرة في كل مكان، بالإضافة إلى وجود الحشرات والزواحف، والأدوات التي تستخدم في تنظيف دورات المياه هي نفسها التي تستخدم في تنظيف المكاتب! وبالنسبة للكافتيريا أو البوفيه في بعض الجهات الحكومية فلا توجد ضمانات صحية تؤكد سلامة الأغذية، وهي غير خاضعة للرقابة على الإطلاق، أما بخصوص الأمن والسلامة، فلا توجد خطة إخلاء وتجربة لتطبيقها، وعدم وجود مخارج للطوارئ أو إرشادات لها، ناهيك عن تعطل نظام الإنذار المبكر والإطفاء، مع وجود ثغرات أمنية تتمثل في وجود غرف كهرباء مكشوفة، وحراسات أمنية ضعيفة.

هذا باختصار فيما يتعلق ببيئة العمل المادية في بعض الجهات الحكومية، علماً بأن معايير هذه البيئة نجد بعضها موجودا في شروط ومواصفات عقود الصيانة والنظافة، ولكن للأسف وكما رأينا آنفاً فإن جل تكاليف هذه العقود تذهب إلى مكاتب كبار الموظفين، وربما تعدت ذلك ووصلت إلى منازلهم الخاصة، وربما كان هناك أيضاً تحايل عند مناقشة بنود الميزانية الخاصة بالأثاث والمكاتب.

وبناءً على ما سبق، فإنه من عادة البيروقراطية الترحيب بالدليل الإرشادي لمعايير بيئة العمل المادية، فهي لن تكون ملزمة لأنها إرشادية وليست قواعد قانونية، وسوف تستخدم هذه المعايير في سبيل دعم الحصول على اعتمادات مالية أكثر ستذهب بالطبع إلى كبار الموظفين، فستتم زيادة مبالغ بنود التأثيث وسوف تطرح مشاريع أكثر لترميم مكاتبهم من بلاط وسجاد وإضاءة وغيرها.

صحيح أن التعميم تضمن توصية تتعلق "بقيام هيئة الرقابة والتحقيق وديوان المراقبة بالتنسيق مع وزارة الخدمة المدنية بتحديد الأسلوب والآلية المناسبة للتحقق من التزام الجهات الحكومية بتوفير هذه البيئة.."، والسؤال المطروح هنا: هل لدى الجهات الرقابية نفسها بيئة عمل مادية مناسبة؟ إذا كان الجواب بالنفي ففاقد الشيء لا يعطيه، فالجهات الرقابية أيضاً جزء من البيروقراطية، ويجب أن تكون قدوة حسنة للجهات الحكومية المشمولة برقابتها.

أرى من الأفضل أن يكون هناك تقييم مستقل لبيئة العمل الحكومي بجميع مكوناتها، وذلك من خلال تقييم مدى الرضا الوظيفي في الجهات الحكومية، مع دراسة أثر هذا الرضا على كفاءة أداء العمل، ولنبدأ بالجهات الرقابية أولاً.