كلما عدتُ إلى "رياح المواقع"، لعلي الدميني، وجدتني في قرية من قرى الباحة، ولذا أعود إليه حين يستبد بي القلق من الحاضر، وتزداد في داخلي أسباب رفض القيم السائدة الآن.

لست أدري؛ لماذا أشعر أنني أهرب من الواقع إلى "رياح المواقع"، كما هرب منه الدميني بقصائده التي ضمها ذلك الديوان القروي شكلا ومضامين وصورا.. والمتقدم لغة ورمزا؟

في "رياح المواقع" غربة نفسية، أو "اغتراب"، لكنهما يذوبان حين يتكئ الدميني على السياقات الاجتماعية الماضوية، فيحيلها إلى الحاضر، مزينا إياها، سواء أقصد ذلك أم لم يقصده، وكأنه يتمنى خفية، أو جهرا عودة الزمن، لتصير اللواحق الواضحة في الخطاب، سوابق؛ لأنها تأتي بلغة جديدة، على الرغم من أنها قديمة بوصفها أحداثاً ومشاهد.

نص "الأرض المبهمة" مثلا، يمزج بين حنينين: أحدهما إلى الزمان، والآخر إلى المكان، لكن المكان يتوارى خلف الزمان، ليصبح "الزمن" جوهر الصورة. ومعلوم أن الحنين إلى الزمن يختلف عن الحنين إلى المكان؛ ذلك أن الحنين إلى المكان مرتبط بالغربة الجسدية التي تستلزم مفارقة الديار، أما الحنين إلى الزمن فإنه نوع من الغربة النفسية، تلك التي تجعل الإنسان يشعر بالحنين إلى زمن مضى، ويتمنى عودته. وهي تتداخل مع الشكوى الناجمة عن القلق، والشعور بالحيف.

لا أستطيع أن أحيل هذا النص إلى أبعد من استلذاذي به، وربما لا أريد، فلا متعة في خلق رمز كلي، في وقت وجود مشهد قريب؛ ولذا أستبعد عن "الأرض المبهمة" الرمز عامدا، لأبقي على فطرية القصيدة، وأبقى في دائرة الجمال، وحسبي.

ليس في "الأرض المبهمة" حنق على شيء، على الرغم من أنها قد تبدو كذلك، وربما كان شعور الشاعر بالسلام مع ذاته، هو ما هيأ له أن يكون شاعرا فقط، دون أن تظهر على قصيدته أعراض عدم القدرة على التكيف مع التحولات، أو البنية المجتمعية، وتلك درجة عليا في ضبط الشعر والشعور.

علي الدميني شاعر ريفي، تأسره الصورة الرومانسية الحالمة لعوالم الحياة القروية، وفي العادة تكون المدينة -عند شعراء الأرياف- قرينة للغربة والتمزق والصخب والتهافت على المادة، فكيف بها عند إنسان كعلي الدميني، صارع المدينة فصرعته ولم تصرعه.

في الطائف، قبل أكثر من شهر، كنت أستمع إلى علي الدميني، وهو يحدث د. صالح زياد الغامدي، عن مواقع في "الديرة"، محددا إياها بأسمائها، ومركزا على اختلاف الشعور بمساحات الأرض، وأحجام الأشياء، باختلاف الأزمنة، ومن ذلك الحديث التقطتُ شيئا عن شخصية الدميني الحانة أبدا.

باختصار؛ لسان حال الدميني الدائم، هو قوله بلسانه:

لم يكن حظك ما تحظى به الآن، ولكن المدينة

وزّعت من عريها ثوبا

فـ"حاضيت" القسيمه.

وليس له إلا أن يقول:

"وأما أنا عوّدت زرّاعٍ وآحب البلاد

واشتريت الغرب والثور واقْربْت العداد

كلموني بالشّويش

والزموا ثوري حبيش"

فهل نعود لنستريح إلى إنساننا الأول، من إنساننا الجديد، يا سيد "النص الجديد"؟