الاستبداد الإداري في أبسط صوره هو عبارة عن حالة من "حالات احتكار المعرفة وامتلاك الحقيقة، والادعاء بكمال العلم بظاهر الأمور وباطنها"، والرئيس الإداري المستبد هو من لا يرى في آراء الموظفين وأفكارهم وجهاً من وجوه الحقيقة، ويتعامل معهم على أساس أنهم قاصرون أو أطفال أو سفهاء يحتاجون إلى وصي يتصرف في شؤونهم!

وقد جاء في القرآن الكريم أن "فرعون" خاطب قومه مدعياً أنه هو الذي يهديهم سبيل الرشاد: (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) وهو ما يراه المستبد لا ما تقرره حقائق الوقائع، أو معطيات العقل والمنطق، وقد اقترن الاستبداد في التاريخ الإنساني بأناس يدعون بأنهم "آلهة أو متحدثون باسم الإله"، مرجعهم في ذلك بشر مستبدون أيضا، كشخصية "هامان" الوزير المقرب إلى "فرعون" ومعاونه الأول، الذي ورد اسمه في القرآن (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب)، فكانت نتيجة هذا الاستبداد هلاك فرعون وجنوده.

وهذه الظاهرة "الفرعونية" الاستبدادية، نراها للأسف الشديد في العديد من الجهات الحكومية! إذ ينفرد شخص واحد بإدارة جهة حكومية بأكملها، ويقوم بالاستحواذ والاستيلاء والسيطرة على كل شيء فيها، وبالطبع فإن هذا الاستبداد يسير وفقا للقانون، وليس هذا وحسب، بل قول وفعل الرئيس الإداري هما بمثابة القانون نفسه!

فوفقا "لما تقتضيه مصلحة العمل" و"بناء على الصلاحيات الممنوحة نظاما" يصدر الرئيس الإداري ما يشاء من الأوامر والقرارات، ويقترح ما يشاء من المشاريع والمشتريات، وعلى المعاونين من المدراء أن يفسروا النصوص القانونية في الأنظمة واللوائح وكذلك الشروط والأحكام العامة في العقود والصفقات، بما يتلاءم مع رغبات الرئيس.

وعلى الخبراء والمستشارين، قراءة أفكار الرئيس ومعرفة اتجاهاته ووجهات نظره وميوله ثم يوجهون دراساتهم وتوصياتهم لتنسجم تماما مع اتجاهات الرئيس، وتتفق دائما مع ميوله، وأن الرأي الأنسب والصائب هو ما يراه دائما، فالرئيس أكثر منهم علما وخبرة حتى في مجالات تخصصهم. وعند فشل خطط وقرارات ومشاريع الرئيس، فإنه دائما يتم تنزيه الرئيس، فيتم البحث عن مشجب، لذا دائما نجد كبار الموظفين في الإدارة العليا يتحدثون عن نقص الكفاءة ونقص الخبرة، والتسرب الوظيفي، وضعف المستوى وقلة العطاء والتقصير في أداء العمل، أما الرئيس الإداري فمن كل ذلك براء!

وكما كان لـ"فرعون" معاونه "هامان"، فإن للرئيس الإداري معاونا من نفس الطراز يلتزم الطاعة العمياء تجاه رئيسه، وينتظر من الموظفين الذين يقعون تحت إشرافه أن يلتزموا كذلك الطاعة العمياء تجاهه، وأن يلتزموا أيضا بتطبيق أي أمر يأتي إليهم منه، حتى ولو كان هذا الأمر غير مطابق للأنظمة واللوائح.

والرئيس الإداري في استغلاله لمعاونه؛ ينفذ الكثير من رغباته، فضلاً عن أنه يظهر أمام الآخرين بمظهر الرئيس الذي فوض القدر الكبير من الصلاحيات لبعض كبار المسؤولين بالجهة، ولكن مثل هذا المعاون لا يكون إلا مشجباً يعلق عليه الرئيس كل رغباته وما تشوب هذه الرغبات من شوائب. وحينما يرفض الموظفون تنفيذ رغبات الرئيس، وخاصة تلك الرغبات المخالفة للأنظمة واللوائح؛ ينبري المعاون دون الرئيس للتصدي لأولئك الموظفين ويتخذ من الإجراءات ما تتيحه له صلاحياته الوظيفية للنيل منهم، مما يترتب على ذلك الإضرار المباشر بمصالح الجهة.

وكما كان فرعون يسوم قوم موسى سوء العذاب، ويقتل من يعارضه كما جاء في قول الله عز وجل: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم)، فكذلك الرئيس الإداري المستبد يفعل بالموظفين الذين يعترضون على قراراته ويرفضون تنفيذ أوامره وينتقدون خططه ومشاريعه، فيفرض عليهم أقسى العقوبات الإدارية، ما ظهر منها وما بطن، فضلاً عن تشويه سمعتهم، ولو كان بيده صلاحية الفصل من الخدمة لفعلها من أول اعتراض أو نقد لقراراته ومشاريعه والتي في أصلها قرارات شخصية بحتة.

وكما كان فرعون يذبح أبناء بني إسرائيل لحلم رآه في منامه، فكذلك الرئيس الإداري، فكلما زاد ظلما واستبدادا، زاد خوفه من كل ما حوله وتظل تطارده الهواجس والخيالات المرعبة، فيشك في الموظفين ويسيء بهم الظن، فيعتقد أن الموظف الذي ينتقده ما هو إلا موظف مدسوس من مسؤول آخر قد يكون خارج الجهة يهدف إلى إزاحته من منصبه ومن ثم إعفاؤه من منصبه وإحالته إلى التقاعد! وفي مثل هذا الوضع ربما يقع الرئيس ويكون فريسة سهلة لمعاونه الذي سوف يزيده خوفا بهدف كسب المزيد من الصلاحيات والمزايا المالية.

وكما كان قوم موسى يعانون الظلم والفقر والاستعباد والقتل والتهجير، فكذلك الموظفون في ظل استبداد إدارة الرئيس، حيث تشير إحدى الدراسات في هذا المجال إلى أن من أهم الآثار المترتبة على الاستبداد الإداري: فقد حب واحترام المرؤوسين واستبدالها بمشاعر البغض والكراهية، وتفشي الكثير من الآفات الإدارية (تملق ونفاق المدراء، غياب الثقة، ضعف الأداء)، فساد العلاقات بين الموظفين، والضغط على الموظفين الأكفاء لتقديم استقالاتهم، أو نقلهم أو حتى نفيهم إلى إدارات مجمدة وظيفيا، وقتل الابتكار والإبداع، وفساد البيئة الداخلية للجهة الحكومية.

وأما أسباب ظهور الاستبداد الإداري في الجهات الحكومية؛ فتقول تلك الدراسة إن من أهمها: الثقافة الخاصة (للرئيس الإداري) والتي ربما اكتسبها من رؤسائه السابقين أو من المدرسة أو من والديه، بالإضافة إلى حب السلطة، وتعظيم المصلحة الخاصة، وأخيراً قبول الموظفين للاستبداد الإداري والرضا به واستمراؤه مما يشجع الرئيس أو المدير على الاستمرار بهذه الطريقة، وربما يتوهم أن هذه هي الطريقة المثلى لقيادة هؤلاء الموظفين.

والسؤال المطروح في النهاية: كيف نستطيع تفكيك ثقافة الاستبداد الإداري في الجهات الحكومية؟