قلنا في تناولات عديدة أن بناء دولة يمنية ضامنة لن يكون ممكنا دون إعادة النظر في عاصمة هذه الدولة، وما إذا كانت صنعاء لا تزال مؤهلة للقيام بمجمل الوظائف الوطنية المطلوبة في عواصم دول العالم.

ولم نثر الأمر أو يأت الحديث عن الموضوع بواقع ردة الفعل من مظاهر الفوضى واجتياح حركة أنصار الله الحوثية للعاصمة صنعاء، ولكن لوجود تحديات بيئية طبوجرافية وديموجرافية تسترعي من قوى المجتمع - سياسية وثقافية واقتصادية - الوقوف حولها وإخضاعها للدراسة والتحليل واتخاذ قرار وطني بشأنها. وإذ نعاود طرق القضية مجدداً فلأن عوامل أخرى جدت على صفيحها الساخن ليغدو الوضع هنا أكثر سوءاً مما يحتمل أو يطاق.

تربض عاصمة اليمن على مساحة (390) كيلومترا مربعا ويقدر تعدادها السكاني من المقيمين بصورة دائمة نحو (2.229.000) نسمة، وهي تقع على (15 - 35) شمال خط الاستواء وعلى خط طول (12- 44) شرق جرينتش بارتفاع حوالي (2150) مترا عن مستوى سطح البحر.. ولأنها جزء عزيز من وطن يستحق التضحية عجزت العوامل الطاردة عن انتزاع موقف جماعي من نكد الطبيعة علاوة على ما كان يفترض القيام به لمقارعة الحسابات الحزبية التي وقفت خلف قرار اختيارها عاصمة سياسية لليمن بدلاً عن عدن غداة إعادة تحقيق الوحدة 1990.

وبمنطق الانتماء الوطني الصادق فكل ما تشتمل عليه أوطان الناس عزيز وأثير، وأياً كان مبلغ جناية أحدهما على الآخر تظل ثوابت الخلق على رسوخها، فالإنسان والأوطان علة الوجود وليس لأحدهما اختيار صاحبه أو نفي علة وجوده.. بيد أن لكل وطن خصائصه المؤثرة على صوغ وجدان وموجهات أبنائه، كما أن منسوب التطور في حياة الشعوب يعكس نفسه على قسمات الجغرافيا حين تطوعها الأسس العلمية في خدمة بناء الدولة وتحديد نطاق سلطاتها الدستورية وتقرير شكل نظامها الإداري وعاصمتها السياسية.

في أوقات سابقة - وظروف اليمن حينها أفضل حالاً مما هي عليه الآن - صدم اليمنيون وقاطنو العاصمة السياسية بتقارير خارجية صادرة عن خبراء دوليين ومنظمات متخصصة تضع العاصمة اليمنية ضمن لائحة دولية لمدن قليلة مهددة بنضوب مخزونها الجوفي من المياه بصورة كلية.

وقبل عقدين تقريباً عزمت بعض الدول الشقيقة على معالجة تشوهات التخطيط المدني للعاصمة صنعاء لكنها سرعان ما تراجعت عن ذلك، لأن النفقات التقديرية لهذه المعالجة فاقت كلفة بناء ثلاث عواصم بمستواها.. وبحكم ارتفاعها عن سطح البحر يعيش السكان على أقل قدر من الأكسجين لكن إجحاف الطبيعة لا يعادل ظلم ذوي القربى، حيث تعاقبت قيادات السلطة على التهام المتنفسات العامة وأغلقت دور السينما وانقرض دور الفرق المسرحية وانعدمت فرص الإبداع أمام المواهب الشابة، ولاث الفساد وعاث شيء ما يمكن وصفه بـ"العناد الوطني" حال دون مكاشفة الإنسان نفسه غير أن الجَلدْ في مواجهة منغصات الطبيعة يصبح هوانا عند الإمعان في مهادنة أذى البشر وتغافل متخذي القرار عن قراءة تحديات الواقع.

حقيقة مرّة.. أن يجبرك العناد الوطني الهازل على امتهان الخداع واعتبار صنعاء عاصمة سياسية تضع حقوق المواطنة تحت رحمة ميليشيات السلاح وتداعياته الداعشية المؤسفة، ما يكفي لإعلان صنعاء مدينة منكوبة لا عاصمة وطن كبير يكاد يسقط على حين غفلة من أشقائه وأصدقائه إن جاز الجمع بين معطي الواقع القاتم وخدر التباهي بهكذا أشقاء وأصدقاء.

لا مناص من تدارك الأمر ومباشرة مهام البحث عن مفاتيح إسعافية تنقذ ما تبقى للسلطة من ظل وما بقي في أطراف الجسد المثخن من عافية.. فهل يستجيب الرئيس عبدربه منصور هادي لداعي الضرورة ويتخذ قراره الاستثنائي بنقل العاصمة اليمنية إلى عدن أو تعز أو المكلا حضرموت.

نقل العاصمة وإن موقتاً كفيل بتحرير القرار السياسي من أسر ميليشيات السلاح وأوكار الإرهاب ومخالب القبيلة ومثالب الزعيم.. إذا لم تسعه الحكمة أسعفته الحاجة.. وإذا لم يتخذ القرار في هذا الوقت فعلى ماذا يراهن.. وماذا ينتظر..؟

الرئيس هادي أبدى استعداده للتضحية بنفسه دون التخلي عن العاصمة أو مغادرتها، وبدورنا نقدر مواقفه الوطنية الوحدوية لكن الوضع اختلف مع سقوط القيمة الاعتبارية لعاصمة الدولة ومركزها السيادي الأول واتساع رقعة المخاطر لتشمل محافظات أخرى مما يجعل الرئيس نفسه تحت طائلة الشك!

على الصعيد ذاته.. ماذا لو بادر الأشقاء لدعم مثل هذه الفكرة كمدخل لإنقاذ صورة الدولة في وعي المجتمع؟ وبدون ذلك تغدو صنعاء قاصمة العواصم، ويصبح حالها فألاً سيئاً لشقيقاتها العربية التي غضت الطرف وما تبرح تزم الشفاه!!