"حين يشقى الناس أشقى معهم

وأنا أشقى كما يشقون وحدي!

لم أسر من غربة إلا إلى

غربة أنّكى وتعذيب أشدّ". الشاعر عبدالله البردوني.

ينخفض ثمن برميل الوقود ويبقى ثمن الإنسان ثابتا. تبقى قيمة الإنسان لا تقدر بثمن ولا تحسب بمال، ولا تحتملها أسواق المال ارتفعت أو انخفضت مجتمعة، لأنه ليس منتجا قابلا للتعويض أو الاسترداد، لا كليا ولا جزئيا!

ولأجل هذا الإنسان كانت التنمية، وقبلها ذلل له ما في الكون ليحيا ويعمر الأرض ولكن حين يرفع رأسه مزهوا بما حقق من نجاح علمي وعملي في رحلته الشابة ويثق بالأرض التي يقف عليها، وفجأة يجد نفسه في حفرة؛ فمن نلوم؟!

كان الأب والزوج الدكتور علي منشو ينتظر وقع المفاجأة التي أعدها لزوجته فوقع الولد وتبعه الوالد ووقع المجتمع في ذات الحفرة ولم يكد يخرج؛ رحمهما الله وجبر مصاب الأم والأسرة التي انهارت أركانها.

أحرّ التعازي لكل من فجعه الخبر، خاصة أسرة الضحيتين، وشكرا لمن تعاطف وقدم واجب العزاء نيابة عن الشعب بأسره. أعترف لكم بأنني اكتفيت بحزني الصامت وبقيت أقرأ ردود الأفعال الغاضبة وكأنني وقعت في حفرة الصمت ولم يعد الإرسال ممكنا!

وما أبشع التبرير للخطأ كصاحب المركز الذي زعم أن الطفل عبث بغطاء غرفة الصرف الصحي! وليت أنه تحمل على الأقل دية الولد وأبيه لكان أكثر نبلا، لكن أن يدعي أن طفلا في الخامسة من عمره عبث بغطاء غرفة التصريف مستحيل إلا لو كان مصنوعا من الورق! وهناك من أصر على أن ما حدث يدخل في باب القضاء والقدر ونعلم أن القضاء قد ينهي مدنا بأكملها في طوفان أو زلزال وغيرها من الكوارث الطبيعية، لكن لا يمكن أن نعد حفرة شارع التحلية بجدة كذلك؛ فقد كان حرص أصحاب المكان ومراقبة محيطه يمكن أن يمنعا أمثال هذه المأساة.

لو عدنا للعام الماضي فقد تعلقت قلوبنا بحفرة سقطت فيها الطفلة لمى الروقي وبقينا نترقب كل خبر جديد وأغلقت وقتها كل سبل الأخبار الصحيحة على المتابعين وبدأنا في طوفان من الأكاذيب والشائعات لما يزيد عن شهر كامل لننتهي على أمل طمرته الأيام التي طالت حتى أخرجت جثتها بعد أن ماتت الآمال والأكاذيب!

سارع الناس في الأسبوع الماضي لملاحقة غرف التفتيش المفتوحة في مدن مختلفة، وبادرت بعض الجهات لسدها وترددت أقوال عن سرقة أغطية غرف الصرف الصحي وأن وراءها عمالة تتاجر بالحديد، وإن صح هذا الأمر أو لم يصح فنحن حاليا نمرّ بتوجيهات خادم الحرمين بتسارع شديد في التنمية، خاصة في المدن الرئيسة كجدة والرياض ومكة، وبحركة تأسيس للبنية التحتية لا تهدأ بين تحويل الكهرباء أو تمديد مصارف السيول أو إيصال المياه، وما التحويلات والحفر التي تملأ الشوارع وتضيق على الناس سبل العبور إلا دليل على ذلك، وسنحتملها في مقابل إصلاح فساد طال جهات كثيرة، وتوقف للتنمية استمر لعقود، ولكن يتبع ذلك أيضا مخاطر غير محسوبة.. أذكر قبل شهرين وأثناء حفر أحد الشوارع الرئيسة القريبة لم يتم وضع علامة تدل على وجود أعمال حفر في المسار الأيسر ومباشرة سقطت سيارة مسرعة في الحفرة ليلا!

يجب أن نعي أن وجود أي حفرة تشكل خطرا فادحا ومسؤولية مشتركة علينا التبليغ عنها، وحين يتم التهاون نصعد الموضوع لجهة أعلى أو ننشره في وسيلة جماهيرة لنحرج تلك الجهة، فلا يعقل أن نعتمد على عمال الشوارع وبعضهم بين الجهل أو انعدام المبالاة وسوء التقدير وصغر السن بحيث لا يعي مخاطر ما يقوم به!

ونمرّ أيضا بغرف تفتيش تكسرت نتيجة لقدم الزمن، وفي محيطنا الكثير منها، نقابلها أمام بعض المحلات، وحقيقة لا أدري على من تقع المسؤولية في متابعة مثل هذه الأمور، لكن يجب أن تكون هناك جهة تهتم بهذه التفاصيل فتقوم بغلق وتبديل كل ما يشكل خطرا، خاصة وعجلة التنمية يصرف لها مبالغ ضخمة لن تعجز عن استبدال تلك الأغطية المعطوبة! كما أننا يمكن أن نستحدث جهة نربطها بالأحياء توظف من الشباب من يقوم بذلك ويكون عمله مراقبة الميدان لو افترضنا أنه لا يوجد عدد كاف من المراقبين في الجهات المختصة، بما أن كل هذه التنمية صنعت لنا.. للإنسان على هذه الأرض.

لا أريد أن ألوم أحدا بعينه واللوم لن يعيد من مات، بل أقف موقف أهل الضحايا بضرورة محاسبة المتسبب الذي تثبت اللجنة إدانته. ليس ما حدث -نسأل الله ألا يتكرر- أمرا هينا فموت حاضر بهي يتمثل في الأب الدكتور علي ومستقبل واعد في ولده تقبلهما الله، وبقاء الأم وابنتها لجين وحيدتين، جبر الله مصابهما، بعد غياب شطر العائلة؛ مأساة لا تنسى ووجع لا يمحى، لكنه يشعل فينا سؤالا نعلم جيدا جوابه وهو: هل هناك ما هو أثمن من إنسان صرفت عليه الدولة ليتم تعليمه ويعود بأعلى مؤهل؟! وهل يعدل إهمال غطاء غرفة تفتيش بثمن بخس روحين وحياتين لم يتبق منهما إلا صور وألم وذكريات عبرت وطنا؟!