نافذة مفتوحة لكن فراغها ليس كاملاً فهي مأهولة بقضبان حديد طولية وبين بعضها قلبان مهصوران بالطول ذاته ومشغولان من الحديد نفسه. تطل النافذة على بيوت جنوبية مقدودة من الجبال وتقع في خضرة عميمة شاملة؛ تغرق فيها كأنما هي زمنها تظل فائحة فيه.

هذه هي صورة غلاف المجموعة القصصية الجديدة لمحمد علوان "هاتف" (نشر مشترك: نادي أبها الأدبي ومؤسسة الانتشار العربي - 2014) والتي التقطتها عين شذى محمد علوان لتقول الأب وإبداعه في هذا الكتاب؛ الإطلالة على عالم لم يعد هنا ولم يعد بالإمكان الاتصال به جسدياً، فقد ضرب الحاجز وقام الفاصل ولا سبيل للعبور إليه. فردوس غائر في حنايا العمر والأيام المتكاثرة برملها والجسد الصاعد في الشيب.

كيف سيشق الكاتب طريقه فيرفع قضبان الزمن ويهرس حديده؛ يصهره من أجل أن تنفتح النافذة بكاملها وتجد النظرة دربها دون حائل؟.. أحسب أن دفقات الحنين النارية هي المنقذ وهي الشعلة التي ستفض عتمة الزمن. يعض محمد علوان على حنينه ويسعى لموافاة المنازل الأولى بروائحها المختبئة تنتظر من يقشر غلافها، وبشخصياتها التي تترقب من يحرك الجمرة في إناء بخورها لتتضوع الطيبة وتزهر الحكاية ويندى الدعاء.

حنين بعصب الشجن يرف، لئلا أقول الحزن، كلما تراءى سراب الينابيع ودنا ماؤها الخلب من الشفاه التي يفجر فيها الظمأ.

تجد النصوص في ملاحقة الوجوه الهاربة والضامرة في عهده الفائت، فيجري تحيينها لتختلط بوقائع السارد ويومياته ورحلاته، تغزوه غزواً فكما هو يطلبها فإنها تطلبه وتتمثل أمامه قائمة في وعيه عياناً لحظة يغشى مكاناً يفيض بالذكريات الجامعة تنهل عليه بصبيبها فيفزع إلى الـ"تناسخ" ليعثر على تفسير ما يحدث له؛ حيث الأب الميت ما يزال في صحبته يؤم مقهى قاهريا أخذتهما إليه رحلة سابقة إلى مصر "في الطاولة التي أمامي كان يجلس أمامي، عاودني الخوف والرعب. ذلك الشعر الأبيض الذي أعرفه شعرة شعرة كان شعره الأجعد قليلاً وكتفاه، لم يكن هناك أحد قبالته. طريقته في التدخين، إمساكه للجريدة وطريقته في القراءة مستحيل أن يحدث هذا لكنه الآن يعرض أمامي" غير أن الطاولة الملأى بحضور الأب سرعان ما تشغر وتصيح بفراغها وتصحح وهم الـ"تناسخ": "لم أشاهد أحداً حول تلك الطاولة". إنما هو استدعاء مشتهى وحنين يتلظى خلف أثر الأب الغائب والذي يحضر في نص آخر "جدار". جدار يحمل صورة السارد بالأبيض والأسود "كانت صورتي التي أجمع الأهل على أنها الأحلى وأنها الأجمل". هذه الصورة يترجل عنها الأحلى والأجمل ليحل فيها الأب بديلاً عنها؛ بديلاً عن زمنه. زمن الخضرة الذي كان وانقطع فلم يبق سوى الرماد في زمن الابن وصورته "نظرت إلى هذه الصورة بالأبيض والأسود وعلى هذا الجدار المحايد ورددت بهمس مسموع: كأنني أعرفه/ ابنتي الصغيرة.. قالت لي.. بابا هل هذه صورة والدك؟/ لم أقل شيئاً وقال اللون الرمادي كل شيء".

الماضي بروائحه وحكاياته يختم على روح محمد علوان بشميم وبحلم ما أشد اندلاعهما عندما تحضر القرية بشفرتها الغلابة (مثلاً: نصا: "رائحة الهيل" و"حلم عمرة") لينداح الحنين عالياً وأخاذاً وبصيغة جمالية لها فرادتها؛ كثيراً ما تعد بها كتابة علوان، وكثيراً ما تفي.

* كاتب سعودي