انفردت صحيفة الوطن قبل شهر بنشر خبر إحباط لجنة قضائية مُشَكَلَة من المجلس الأعلى للقضاء سرقة أراض مساحاتها 50 مليون متر مربع شرق طريق الحرمين السريع بمحافظة جدة، وذلك لدى تحقيقها في صك مشبوه مساحته 85 مليون متر مربع، تم تدوين 26 ملاحظة عليه من وزارة العدل. وأقرت اللجنة في تقريرها شطب الصك المشبوه، وإعادة تنظيمه بحيث يكون إجمالي مساحته 35 مليون متر مربع فقط، تمثل الأرض الأصلية التي استخرج الصك عليها، مضمنة تقريرها أن بقية المساحة المقدرة بنحو 50 مليون متر مربع تمت سرقتها وإضافتها للصك دون وجه حق، وأنها عبارة عن أملاك للدولة وخدمات عامة، تمت إضافتها للصك الأصلي دون مسوغ نظامي عن طريق كاتب العدل الذي (طبخ) الصك. وتم رفع تقرير اللجنة للمجلس الأعلى للقضاء، مطالباً باستدعاء كاتب العدل المتهم، وإعادة الأراضي المسروقة لأملاك الدولة، وتنظيم صك جديد للمالك بالمساحة الأصلية البالغة 35 مليون متر مربع فقط.

كما انفردت "الوطن" بنشر تفاصيل مراجعة اللجنة القضائية لصكوك مشبوهة استخرجت بطرق غير نظامية في 6 مدن ساحلية، تزيد مساحاتها الإجمالية على 400 مليون متر مربع، بعد أن أصدرت وزارة العدل قرارا بإيقاف إفراغ أو نقل ملكية هذه الصكوك لحين التحقق من صحتها، بعد أن كشفت تقارير رقابية عن شبهات في تزويرها من قبل 3 قضاة، أدينوا في تهم تزوير صكوك أخرى بالتواطؤ مع رجال أعمال بطرق غير شرعية، إلى جانب التعدي على مرافق عامة.

منذ تأسيسها قبل 21 عاماً، لم تواجه منظمة الشفافية الدولية تحديا أكثر مشقةً من آفة الفساد. فالمنظمة التي انضم إليها، حتى الآن، 102 دولة وتتولى مراقبة الفساد في 163 دولة، صنفت في تقريرها الأخير كلاًّ من العراق وهاييتي وميانمار وغينيا والسودان والكونغو وتشاد وبنجلاديش كأكثر الدول فسادا في العالم، بينما حصلت فنلندا وأيسلندا ونيوزيلندا والدنمرك وسنغافورة والسويد وسويسرا على أفضل درجات مكافحة الفساد. وأكدت المنظمة أن فساد الدول ليس بسبب وجود الفاسدين فيها فقط، بل لأن هنالك 41 دولة من الدول الغنية العظمى، التي تمارس ظاهرة تصدير الفساد للحصول على المشاريع المربحة، مما أدى إلى ضياع 1000 مليار دولار سنوياً، تعادل 62% من قيمة التجارة العالمية.

وأوضح التقرير أن الفساد في شكله الإداري والمالي الناتج عن سوء استخدام السلطة وتوظيفها في خدمة المصالح الخاصة الضيقة؛ يتناقض بوتيرة خطيرة مع الأنظمة والقوانين، ويفرز تكاليف سيّئة تطال الدولة والمجتمع. فالفساد الإداري يقوم على تسخير السلطة لخدمة أهداف شخصية، فيما يشجع الفساد المالي على الإثراء الفاحش، بصورة تسهم في تدمير الأسس الاقتصادية للدولة، وتهدّد أصول المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، وتقضي على مظاهر الشفافية والمنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص. ويصبح الفساد أكثر خطورةً عندما يصيب الجهاز القضائي، ليتحول من الملاذ الآمن، الذي يفترض فيه حماية الحقوق والحريات وفرض احترام القانون، إلى آلية لحماية الفساد ومأمن للمفسدين ضد المساءلة والعقاب، ليصبح القضاء جزءاً من الفساد وفي خدمته ووسيلةً للتغطية عليه.

ونظرا لأن الفساد القضائي يؤدي إلى مخاطر وخيمة على الأمن الوطني نتيجة سخط المواطنين وتراجع ثقتهم بعدالة حكوماتهم، مما يجعله عاملاً مؤثراً في إثارة الاضطرابات الاجتماعية والتمرّد على السلطة التشريعية، ويسهم في تسهيل شبكات الجريمة المنظّمة، التي تقدّم التمويل إلى المنظمات الإرهابية؛ لذا علينا الوقوف إلى جانب صنّاع القرار ودعم وزارة العدل في مسيرتها للقضاء على آفة الفساد، من خلال الخطوات الرئيسية التالية:

أولاً: تكليف الأجهزة الرقابية بالدولة لجمع المعلومات عن بنية الأفراد والشبكات المفسدة وأدوات قوتها المالية ومصادر دخلها، حتى تستطيع وزارة العدل إجراء تحليل دقيق لمكامن الخلل والانحراف، ومعالجة أوجه قصور الأنظمة والعقوبات الرادعة. فالمعلومات الخاصة بتنظيم وممارسات الشبكات الفاسدة وهياكلها الوظيفية يجب أن يتم جمعها وتبويبها بصورة منتظمة، ليتمكن القضاء من استئصال شأفة الفساد قبل استشرائها. فالدول التي تعاني من الفساد الشديد تعاني أيضاً من فشلها الذريع في جمع المعلومات وتسخيرها كمؤشر لمدركات الفساد. وفي حين تبدو خطوة جمع المعلومات مفيدة للغاية للتعرف على ديناميكية الفساد المنظّم وكيفية اجتثاثه؛ فإن مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية يضع هذه الخطوة في مقدمة الخطوات اللاحقة لتركيز انتباه الدولة على مشكلة الفساد وحشد الجهود لمحاربتها.

ثانياً: تشديد العقوبات على الشبكات المفسدة لضمان عدم إفلاتها من القضاء وتحييد قدرتها على استغلال ثغرات النظام واستخدام أحكامه القانونية لصالحها، مما يؤدي إلى حجب الجريمة التي يحققها المفسدون، مثل استباحة المرافق العامة وتحويلها إلى مخططات سكنية وتجارية بتراخيص وصكوك فاسدة.

ثالثاً: تسخير التكامل الأفقي بين وزارة العدل والجهات الرقابية والأمنية في الدولة للتخلص من شبكات الفساد المُنَظّمَة، ومنع سيطرتها على جهاز القضاء وأجهزة كُتّاب العدل، وفك استباحتها للإطار التنظيمي في الإدارة التنفيذية. فالتداخل الوثيق بين الجهات الرقابية ووزارة العدل يسهم بشكل كبير في عدم استغلال شبكات الفساد للصراعات بين أجهزة الدولة أو إثارتها بصورة متعمّدة لتنويع مصادر التربُّح غير المشروع وتحييد القدرة الرقابية للمسؤولين. وإلا فإن الشبكات الفاسدة ستتحكم بآليات الحماية من الرقابة، والالتفاف على أنظمتها واستباحة قراراتها.

علينا دعم وتشجيع وزارة العدل لاجتثاث آفة الفساد من مجتمعنا.