منذ سنوات عديدة ونحن نسمع عن وجود مشروع نظام أو قانون لتجريم التحرش الجنسي، وأن مجلس الشورى قد أعد الصيغة النهائية له تمهيدا للتصويت عليه من قبل أعضاء المجلس، ومن ثم رفعه للمقام السامي لإقراره والموافقة عليه، وبعدها ظهر نظام "الحماية من الإيذاء"، الذي يقول عنه البعض إنه نظام أشمل ويندرج تحته مكافحة التحرّش الجنسي!

ومؤخراً، نشرت "الوطن" تقريرا صحفيا عن وجود جدل قائم بين أعضاء مجلس الشورى حول "قانون منع التحرّش بين الجنسين"، حيث يحاول البعض تعطيل هذا القانون لأنه يخالف أحكام الشريعة الإسلامية بالإضافة إلى وجود موانع نظامية تقتضي تأجيل النظام إلى "حين استكماله في ضوء المصالح العامة"!

هذا الجدل القائم بين أعضاء مجلس الشورى، يجعلنا نتساءل عن أسباب عدم ظهور قانون خاص لتجريم ومنع التحرش الجنسي، والاكتفاء بإدراجه ضمن أشكال الحماية من الإيذاء، الذي يقول عنه بعض المختصين إنه لا يحقق أدنى متطلبات منع التحرش؟

الجواب عن السؤال السابق، ذكره أحد الدعاة صراحة في إحدى المقابلات التلفزيونية حيث قال إن "قانون (منع) التحرش يساعد في إقامة علاقات محرّمة ويسهلها"! كما ذكرت إحدى عضوات مجلس الشورى أن مشروع النظام وفقا لمادته الأولى "يؤصل التحرش الجنسي بين الجنسين برضاهما"! والسؤال المطروح هنا بعدما عرفنا سبب الاعتراض هو: كيف يسمح النظام بالزنا والعلاقات المحرمة بالتراضي بين الرجل والمرأة؟!

دائما ما يردد الدعاة ورجال الدين في خطبهم وكتاباتهم أن القوانين الغربية والوضعية تخبطت وأخطأت في تعاملها مع "قضية صيانة الأعراض"، فمن ناحية "تفرض قوانين صارمة لمعاقبة الذين يتحرشون جنسيا قد تصل إلى السجن المؤبد أو الإعدام، ومن ناحية أخرى لا توجد عقوبات للزناة طالما أن فعل الزنا قد تم برضا الطرفين، ولا توجد عقوبات لمن يشيعون الفاحشة في المجتمع من خلال نشرهم للخلاعة والمجون والعري".

ويقولون أيضا "في الغرب نجد أن أهم طرق مكافحة التحرش الجنسي تتمثل في سن القوانين والعقوبات، وإلغاء الفروق بين الجنسين، وإنشاء برامج التوعية التي تعمل على تعديل أنماط السلوك الاجتماعية والثقافية للرجل والمرأة..، وللأسف فإن المجتمعات الإسلامية العربية تبعت المجتمعات الغربية في طريقة تعاملها مع قضية التحرش الجنسي".

وليس هذا وحسب، بل إن بعض الدعاة ورجال الدين يرون أن سلوكيات وملابس المرأة، هي التي غالبا ما تكون سبب فتنة الرجال ودفعهم إلى التحرش بها، وبالتالي لا يوجد في القوانين الوضعية ما يمنع مثل هذه السلوكيات، كما لا توجد إشارة إلى دور الالتزام بالسلوك الإسلامي المانع للاختلاط في منع التحرش الجنسي، بالإضافة إلى طلب إزالة الفوارق بين الرجل والمرأة، وبذلك يتحقق الانفلات الجنسي بالرضا في ظل حماية القانون.

بالإضافة إلى ما سبق، يرى بعض الدعاة أن قانون منع التحرش يؤطر للاختلاط في أماكن العمل والتدريس ويسمح به نظاما، ويأتي في ظل وجود جهود لمنع عمل المرأة، وبالتالي فإن النظام سوف يعطل هذه الجهود ويصيبها في مقتل!

وعلى هذا الأساس بدأ البعض يتذرع بالنظام وبأحكام الشريعة الإسلامية، فتارة يقولون إن مشروع النظام يتفق مع نظام الحماية من الإيذاء، ويؤدي إلى التشعب وكثرة الأنظمة، وتارة أخرى يقولون إن النظام يؤدي إلى التساهل في قذف الأبرياء، وبالطبع فإن هذه الحجج ما هي إلا محاولات لتعطيل مشروع النظام بأية وسيلة كانت لأسباب أيديولوجية، وذلك على حساب الكرامة الشخصية والاجتماعية للإنسان.

لقد تعودنا من بعض الدعاة ورجال الدين الهجوم الشرس والانفعالي والسعي لطمس إيجابيات القوانين الغربية، وإبراز دعوة الغرب إلى ضرورة حماية المرأة والطفل والضعيف وضمان حقوقهم وكرامتهم؛ على أنها دعوة شيطانية الغاية منها ابتذال المرأة وإشباع الغريزة منها واستخدامها كأداة للهو والتسلية، ولهذا كان تأكيدهم على السفور والتبرج والاختلاط والتحلل من الدين والأخلاق، بينما أكد الإسلام على الحجاب وعدم الخروج من البيت ليضمن لها كرامتها وشرفها وعفتها.

صحيح أن الإسلام حرّم الزنا، ولكن ما زال موجوداً في المجتمع، وصحيح أن الإسلام أمر بالحجاب وغض البصر، ولكن ما زال هناك تحرش بالنساء بالرغم من هذه التحذيرات.. فأين هي هذه الوقاية التي يتحدث عنها بعض هؤلاء الدعاة ورجال الدين؟

فعندما يأمر الإسلام المرأة بالحجاب حتى لا تتعرّض للإيذاء، فهل معنى ذلك أن المرأة غير المحجبة يسوغ التحرش بها وإيذاؤها؟.. بالرغم من أن هذا المنطق مقبول عند بعض الدعاة ورجال الدين.. ولكن غالبية المجتمع لا يقبل بهذا المنطق بل يتقزز منه، وهذا ما ينطبق على قانون منع التحرش كذلك.

لعلي لا أبالغ إن قلت إن مواقف بعض الدعاة ورجال الدين الرافضة لسن قوانين ضد التحرش هي أحد أسباب انتشار التحرش الجنسي في المجتمع، فلسان حالهم يقول "لقد حذرنا من خروج المرأة للعمل وحذرنا من التبرج وحذرنا من الاختلاط، لذا فإن التحرش بهن نتيجة طبيعية لعدم الاكتراث بتحذيراتنا"!! ولهذا يصمتون ويغضون الطرف عن حقوق الضحايا من النساء.

لقد نسي هؤلاء أن القرآن الكريم قد وضع عقوبات للمتحرشين بالنساء بأنهم سيطردون خارج المدينة إن لم ينتهوا، بل قد يصل بهم الأمر إلى القتل، ونسوا أيضا أن مسألة التحرش تحتاج إلى قوانين تتضمن أشكال التحرش وكيفية تطبيق القوانين وتحديد المسؤوليات، وكيفية الإشراف والرقابة على تطبيقها، بالإضافة إلى الحاجة إلى وجود استراتيجية وطنية تشمل معايير مرجعية ومؤشرات تضمن وجود إطار عمل مناسب لمقاربة شاملة ومنسقة لتطبيق هذا القانون.

وفي النهاية أقول لبعض الدعاة ورجال الدين: إن كل ضحية تحرش جنسي أنتم مسؤولون عنها وفي رقابكم إلى يوم الدين.