بعد أكثر من ساعتين قضيتهما مساء ما قبل البارحة في مجلس والده الشيخ الأصيل الشهم، اكتشفت أن البرواز الذهبي في صدر المجلس يحمل شهادة وسام الملك عبدالعزيز لشهيد بطل مات متوشحا بدلته العسكرية. استشهد (غازي)، وهكذا نحسبه تماما، وبالميزان؛ على بعد سبعة أمتار من حدود اليمن وسالت دماؤه الزكية على آخر صخرة سعودية. استقبل جسده الطاهر بضع طلقات وهو يؤدي واجبه ليحمي أجساد الآلاف من أولاد وطنه من سموم المخدرات. أحبط مع اثنين من زملائه الأبطال الأشاوس ما تم تحريره بمحضر رسمي عن مصادرة 300 كيلو جرام من الحشيش. وكل قصة الشهيد البطل بعد كل هذه السنين من الرحيل ليست بأكثر من قصة الحق المعنوي الذي يجب أن نقاتل من أجله كي نبث الرسالة للأبطال الذين لا زالوا أحياء على الحدود ذاتها. يقول لي والده بالحرف: لم أنجب في حياتي تسعة رجال كي أظن وهما أنني لن أضحي ولو بواحد منهم من أجل وطن. أنا فخور بـ(غازي) الميت أضعاف فخري بعزوتي الثمانية على قيد الحياة.
يسكن والد غازي، ويقبع هذا الوسام الشرفي؛ على أطراف قرية نائية مهجورة في شرق منطقة عسير. وخذ للمفارقة أن البلدية قد أسمت الشارع المؤدي إلى بيت أهل الشهيد باسم (الأصمعي)، وأن المدرسة التي درس فيها هذا (الغازي) البطل تحمل اسم (مدرسة لشعث)!
ما الذي كان سيكلفنا لو أننا غرسنا المثال والقدوة لعشرات الأطفال الذين لا يعرفون (الأصمعي أو لشعث) ولكنهم يعرفون تماما تاريخ البطل الوطني الشهيد (غازي عوض مسفر) ثم رفعنا اسمه مثالا وقدوة على مدرسة وشارع قرية مهجورة.
والد الشهيد الشيخ الأصيل الشهم يشكر وطنه وقيادته مثلما يثمن مواقف الأميرين فيصل بن خالد ومحمد بن نايف. لكنه يتمنى ألا يتحول الشهيد إلى مجرد وسام على الجدار لأن النظام القانوني حرمه من حقوق ابنه إلا بصك إعالة لوالد عفيف ميسور الحال. هو يتمنى شيئا من رواتب ابنه لا للحاجة ولكن للذكرى: كي يضعها في محفظة خاصة في جيبه الأيسر ليشرب منها الماء البارد من يد الشهيد. كي يشتري منها هدية خاصة لأم غازي من سوق الخميس. كي يعايد بشيء منها على إخوته ليقول لهم: هذه من بركات الشهيد.
خرجت من الباب وأمامي مباشرة لوحة المدرسة وإلى يميني شارع (الأصمعي). حزنت جدا جدا جدا لأننا لا نستطيع حتى زرع المثال والقدوة ولو بتغيير الحروف في لوحة شارع أو مدرسة، فتحول الشهيد البطل إلى مجرد برواز ولوحة في مجلس.