أحوال اليمن ستظل بهوا مفتوحا على كل الاحتمالات بما يفوق تواؤمها من بلدان النكبة الربيعية العربية، ومرد هذه المآلات السيئة أسباب عديدة أبرزها على وجه الحصر تذبذب مواقف وتوجهات الأشقاء والأصدقاء بين المبالغة في الإنصاف والمبالغة في الإجحاف، ما يجعل جهود الأشقاء وبمقدمتها المبادرة الخليجية ومساعي الأصدقاء وبطليعتهم الدول العشر الراعية مسار التسوية السياسية ومجلس الأمن جزءاً من المشكلة لا مدخلاً تاريخياً للحل.

ومنذ البدايات الأولى لتداعي هؤلاء وأولئك طاشت الرؤية الموضوعية القائمة على القسط وحلت التقديرات الآنية بدلاً عنها، وجرى الركون على توافقات الأحزاب التقليدية المطبوعة على الكيد وشغف السلطة دون تمحيص في سلامة مواقفها المشوبة بالكثير من الدوافع المؤذية التي تعوزها النزاهة وتفتقر إلى الحد الأدنى من الحرص المشترك على مصالح الوطن العليا والأمانة في التعبير عن تطلعات المجتمع.

ثمة من يرى أن المنظومة الخليجية غضت الطرف عن الثغرات السياسية والقانونية التي تخللت النص المتوافق عليه من قوى الصراع والتسليم بما تتمحض عنه ملكاتهم بوصف اتفاقهم غاية بحد ذاتها، نظرا لمخاطر التداعيات الصدامية الناجمة عن انقسام معسكرات الجيش أثناء اندلاع الاحتجاجات الشعبية 2011 في العاصمة صنعاء، وانطلاقاً من رؤية سياسية تقصر دور مجلس التعاون على مساعدة الأطراف المتناحرة على عدم إلحاق المزيد من المضاعفات السلبية بأمن واستقرار اليمن.

ولئن كان هذا تصور البعض إلا أن آخرين رأوا في مباركة الأشقاء وموافقتهم على مسودة المبادرة "تنور" الصراع، وتذييلها باسم دول الخليج نوعا من أعمال النكاية بثورات الربيع العربي وخطابها الإخواني الحافل بطفح الأحقاد ومؤشرات النزعة الاستعلائية المنبعثة من وهم الخلافة ونظامها الأميركي الجديد في منطقتنا العربية.

وأياً كانت مذاهب التحليل والنقد السياسيين للمبادرة الخليجية إلا أن المجازفات النابعة من هيمنة هواجس القلق على حاضر ومستقبل اليمن ومخاوف الانزلاق إلى هاوية الاحتراب الداخلي وانعكاساتهما الإقليمية هو – وليس أي شيء آخر– ما دعا الأشقاء لمجاراة العقل المأزوم حتى النزع الأخير، وما ترتب على ذلك من مساهمة في إعادة تسويق منظومات النظام السابق وإضعاف لسنن التغيير وانحياز واضح لصالح مراكز نفوذ قبلي وسياسي وأيديولوجي.

هاهي أوضاع اليمن على صفيح ساخن وأحسب أن المخاوف التي دعت الأشقاء لإطلاق المبادرة الخليجية على علاتها لم تعد تمثل شيئاً من منسوب المخاطر المتفاقم أوارها في الوقت الراهن.

عدنا مجدداً إلى بؤرة الارتهان لقوارض وأفاعي الرئيس صالح.. فهل كان هذا ليحدث لولا الغفلة عن القسط والتمادي في المرونة بدلاً عن منطق الحزم تبعاً لمصلحة اليمن ودواعي الحاجة الملحة لبناء الدولة القادرة على احتكار القوة وبسط سلطاتها على مختلف أنحاء البلاد.

مقابل ماذا منح الرئيس السابق حصانة تحميه من العدالة وسيادة القانون ولقاء ماذا كوفئ حزبه بنصف السلطة؟ وبأي مرجعية سماوية أو تشريع بشري حجب عنه ومناصريه وذوي ضحايا كثر حق المساندة الداخلية والإقليمية والدولية ريثما تتحقق الجدية الكافية في التعاطي المسؤول مع جريمة الاغتيال السياسي الذي طال رئيس دولة وأركان نظامه وعدّها مجلس الأمن ضمن جرائم الإرهاب وذهب في أتونها ثلة من خيرة رجالات اليمن؟

وهل كان خصوم صالح الأيديولوجيين عند مستوى المسؤولية في التعامل مع الأشقاء أم كانوا بصدق يضمرون النوايا الحسنة لإنجاح المبادرة الخليجية وإخراج اليمن من النفق المظلم؟ أم أن مشاركتهم في صوغ مضامين المبادرة وتوقيعهم على منح الحصانة للرئيس السابق وحفاوتهم بمقاسمته حكومة الوفاق مستندة إلى علمهم المسبق بتدابير محاولة الاغتيال تلك؟.. ما يجعل الحصانة كفنا مفصلا بمقاس تصور البدائل السيئة لدور الآخر وشريكهم المزمع تحت الأنقاض!!

ما يجدر بنا قوله.. لا عزاء للعقل ولا مستقبل ينتظر اليمن بالرهان على حركة التطور الذي تمر به المخاضات الشاقة في بلدان العالم.. ولا أمل طالما ظلت رؤية الخارج وبالطليعة دول مجلس التعاون لهذا البلد باعتباره فائضا عن الحاجة.

هذا البلد لا تلزمه رزم المال فليس من سبب رئيس لانهياراته الفاجعة أكثر من هذا.. كما لا حاجة به إلى مواقف طوباوية كالتي أعتاد مجلس الأمن والدول العشر الراعية مسار التسوية إغداقها على الرئيس عبد ربه منصور هادي، لأنها قادت إلى وهم الاعتماد على الخارج واسترخاء ما تبقى في كيان الدولة من مناعة وحيوية.. الخارج بالنسبة لنا يتمثل براسمي خرائط الشرق الأوسط الجديد، أما الأشقاء وبالأخص دول مجلس التعاون فإن ما يتهدد بلادنا يتربصها.. ولهذا فإن الضرورة تستدعي وضع اليمن في سياق إستراتيجية خليجية فاعلة ومتجددة وغير تقليدية تأخذ بالاعتبار تجربة طويلة من الحسابات الضيقة والتحالفات القبلية التي أنجزت نقائضها وجعلت (مران) بوابة مشرعة أمام طهران.