احتفل الوطن، قبل يومين، بيومه المجيد، توقفت الأعمال وتمتع الناس بالإجازة وتغنى الجميع ابتهاجاً بذكرى توحيد الكيان الكبير وإجلالاً وتقديراً لعمل عظيم قام به الرجل الكبير، الملك عبدالعزيز، تغمده الله بالرحمة، الذي ترك في أعناق الأجيال المتلاحقة أمانة ومسؤولية جديرة بالصون والحماية. وقد تحققت الوحدة في عصر بالغ التعقيد وظروف قاسية كانت كفيلة بأن تضعف الهمم وتجعل الحلم بعيد المنال، لولا توفيق الله ثم الرغبة الصادقة والعزم الذي لا يلين والصدق في التوجه، فرغم العقبات أمام مشروع الوحدة والعراقيل التي وضعت في طريقها والمكائد التي نصبت لها، والمخططات التي وضعت لمقاومتها إلا أنها تحققت.. وهذا الإنجاز الكبير والمنعطف التاريخي، الذي تغلب على كل الصعاب، ما كان ليصمد ويزدهر وتتعاظم معانيه في نفوس أهله لولا أنه يعبر عن تطلع ورغبة جماعية، برهنت على سرعة الاستجابة لدواعيه وحرصت على التمسك به.

الوحدة مكسب عظيم التف حوله الجميع على طول هذا الوطن وعرضه، شرقه وغربه، شماله وجنوبه، لأن الجميع يدرك أنها رمز القوة والمنعة وفقدانها أو التفريط فيها تفريط في صيانة الذات وحمايتها وإهمال لضمان الحياة الكريمة الشريفة.. وقد تجلى حرص الجميع على هذا الرمز "الوحدة" في كل محطات التاريخ والأحداث الكبرى التي تعرضت لها البلاد. كان الالتفاف على رموز الوحدة وإعلان التمسك بها ورفض كل ما يمسها شعارا رفعه الجميع في وجه من يحاول المساس بها حتى وإن اختلفوا على بعض التفاصيل داخل الوعاء الكبير وتحت خيمة الوحدة الوطنية.

وهذه الوحدة، التي لا يفرط في أسبابها أحد على تراب هذا الوطن الكبير، لها لوازمها ودواعي قوتها ومنابع تغذيتها وشروط بقائها قوية حية متجددة في نفوس الأجيال كلها لترسيخ معانيها في المشاعر والعقول.. والوحدة ليست شعاراً أو نشيداً أو مناسبة نتمتع فيها بالإجازات ونعلن فيها بالصوت عن حبنا وولائنا لهذا الوطن وقيمه ومبادئه – وإن كان ذلك مطلوبا لنعلن للجميع اعتزازنا وفخرنا بالانتساب إليه – الاحتفال بالوحدة شيء أكبر من ذلك بكثير، شيء يمكن أن يحتوي على معان نترجمها في العمل على ازدهار الوطن وقيم نعلي بها من شأنه وسلوك يضبط حياتنا وتصرفنا حيال خيراته ومكتسباته ونحو المواطن بالحفاظ على حقوقه ورؤى نتمثلها ونؤمن بها ونعمل على ترجمتها في حياتنا.. الذين ضحوا من أجل وحدة الوطن واختاروها وعاء لمستقبل الأجيال رأوا فيها معاني كريمة تعزز من ثقافتهم وتحفظ قيمهم ولا تستهين بعاداتهم. اختاروها لأنها مصدر لقوتهم ونبع يغذي مبادئهم. وستبقى الوحدة معنى ساميا وقيمة سامقة وراية مرفوعة يلتف حولها الجميع، يضحون بأرواحهم من أجلها. وسيزيد الفرد من التفاني في سبيلها حين لا يشعر، في ظلها، بالغبن أو هضم الحقوق أو استعلاء طرف على آخر أو استثناء طرف بشيء دون الآخرين، فالوحدة تعني الشراكة في الحقوق والواجبات وفي حفظ الكرامة وصيانة الذات واحترامها وتقديرها وإعطائها نصيبها من كل شيء.

المواطن يحتفل بالوحدة ويتغنى بها – وحق له ذلك – وهذا التغني والابتهاج يستلزمان مواقف وسلوكاً جامعاً.. يحتاج الوطن إلى الإخلاص الذي لا يفرط في شبر من ترابه كما يحتاج إلى مشروعه المستقبلي الذي يمكن الأجيال من العيش في عصرهم بأدواته ووسائله ولغته. وأي "خطاب" أو وجهة نظر تعطل هذا المشروع أو تشكك فيه أو تربكه أو تضع العراقيل في طريقه هي عمل مناهض لمبادئ وأهداف الوحدة ومعارض لمعانيها ومستلزماتها وشروطها.. ويحتاج الوطن، حين الاعتزاز بوحدته، الإيمان والالتزام بأن ثرواته هي لجميع أجياله وليست لجيل دون آخر، وهذا يعني مسؤولية الجيل الحالي عن صيانة الثروة وحفظها من الضياع وحمايتها من سوء الاستغلال والتبذير السفيه وصونها من أصحاب الضمائر المغشوشة. ويحتاج إلى الإخلاص في تنفيذ مشاريع التنمية بما يحقق الأهداف وتنفيذها تحت رقابة الضمير الحي الذي يستشعر عظم مسؤولية الأمانة وتحت بصيرة العلم الذي يضمن الإتقان وحسن الأداء.

الوحدة وعاء يحتضن في ظلاله حب الوطن والشعور بالولاء والإحساس بالمسؤولية، وهذه الأحاسيس تترجم الاهتمام بقضايا الوطن وشؤونه العامة والاعتزاز به والدفاع عن قيمه وصورته والحرص على تمثيله بما يحفظ لأهله كرامتهم وسمعتهم.. وهذا يقتضي أن ينهض كل فرد بمسؤوليته وأن تستشعر كل مجموعة حق الآخرين وتحفظ لهم دورهم وحق مشاركتهم.

وكما للوطن حقه وسمعته التي يتوجب على الفرد رعايتها وصيانتها وعدم الإساءة إليها فإن للفرد حقوقه ومتطلباته التي بدونها يفقد القدرة على التوازن وحفظ حقوق الآخرين.. ومن حقوق الفرد في ظل الوطن أن تتوفر له متطلبات حياته الطبيعية من تعليم وصحة ومواصلات وخدمات دون إرهاق أو إذلال مع صون كرامته وحفظ حياته وتوفير ما يضمن له حياة كريمة.

إذا تكاملت صورة الفرد المتوفر على متطلبات حياته وصورة الوطن المتمتع بولاء أهله وحبهم له والدفاع عنه والاعتزاز به حينها نفرح بأن اليوم الوطني يترجم على أرض الواقع في حياة الناس.