بدأ برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، منذ قرابة عشر سنوات، وتخرج منه آلاف الطلاب من أفضل جامعات العالم، وهو إن لم يكن المشروع الإصلاحي الأول للبلد، فهو على الأقل من أعظم المشاريع الإصلاحية في تاريخه، بينما يدور الكثير من الحديث في بعض الأوساط بأن هذا البرنامج ما هو إلا مؤامرة لأجل التغريب!

هذه الحكاية قديمة وليست حديثة، فأغلب المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل عندما يدخلها شيء لا تفهمه فإنها تعتبره مؤامرة أو شرا، فعندما دخلت الطباعة حرمها البعض آنذاك كونها مؤامرة لتحريف القرآن، بل حتى التطعيم في الهند فترة الاستعمار البريطاني كان مؤامرة لقطع النسل! بل وصل الأمر أن كل شيء مؤامرة فحتى الرياضة العالمية مؤامرة صهيونية كما تصفها خرافة بروتوكولات حكماء صهيون!

أعود لموضوعنا؛ ما الحاجة للابتعاث؟ هذا التساؤل يكثر سماعه خصوصا من الإخوة المتوجسين من الابتعاث، وآخرون يقولون لماذا لا نُنشئ جامعات هنا بدلا من الابتعاث؟ لماذا نبتعث الإناث؟ والكثير من الأسئلة.

بمراجعة قصص كل الدول الناهضة في هذا العصر؛ نجد أن قصة نجاحها بدأت بتحديث التعليم، ولا أحد يعارض هذا من حيث المبدأ، ولكن الشيطان يأتي في التفصيلات كما يقال! فالبعض يعتقد أن التحديث يجب اقتصاره على الجوانب الهامشية في التعليم وخارج البناء المعرفي الإنساني للتلاميذ، بينما كل التعليم الإنساني يجب أن يبقى جامدا كما هو قبل 200 عام، ولا يرى أن هناك شيئا يستوجب الإصلاح! فهو كمن يريد سيارة بأحدث الطرازات الحديثة مع مكينة (قلب) عتيقة ترجع مثلا للسبعينيات!

فهناك قناعة لدى البعض بأنه ليست لدينا مشاكل في فكرنا وثقافتنا، وكل ما نحتاجه هو التطور في العلوم التجريبية من تكنولوجيا وطب وغيرهما، ولكن لا يدري هؤلاء أن الحضارة لا تتجزأ، والسنن الكونية لا تفرق بين الصالح والطالح حسب منظورنا، فالتطور الذي وصل إليه الغرب لم يكن إلا بعد التطور والنضج الفكري والإنساني قبل ذلك.

فالتطور والحضارة مترابطان بكل تفصيلات الحياة، كما أن السيارة (المثال السابق) لا يمكن أن تكون راقية ومتطورة ما لم يكن التطور في كل تفاصيلها، ووجود موصّلات رديئة أو حتى مقعد غير مريح أو محرك بصوت مزعج يجعلها سيارة فاشلة ولو كانت في جوانبها الأخرى راقية.

التطور الحضاري الحقيقي له ارتباط بكل تفاصيل الحياة، فهو وثيق الصلة بالمرأة والحقوق والقانون والحرية الدينية وأشياء كثيرة لا يمكن أن يتحقق تطور حضاري بدونها. وسأحاول شرح ذلك بالأمثلة؛ فلا يمكن لبلد أن ينهض دون أن يكون هناك تعليم للمرأة ومشاركتها، فالنمو الاقتصادي تؤثر فيه كثيرا نسبةُ المتعلمين والعاملين في أي بلد، ويؤثر بشكل كبير في نتائج متوسط دخل الأفراد ومستواه، كما أن الطفل غالبا ما يعتمد على المرأة لتساعده في التعليم، والمرأة في ذاتها تحتاج إلى التعليم لتنهض في فكرها وفهمها ومساهمتها للمجتمع بدلا من أن تكون عالة عليه، المرأة غير المتعلمة لا تستطيع الإسهام بشيء لنهضة بلدها إلا إذا اعتبرنا وجودها القدري هو مجرد خدمة زوجها -إن وجد- وأبنائها! فالحضارة مرتبطة بشكل وثيق بعدد السكان ونسبة الإنتاجية والاعتمادية العائدة من كل فرد.

الحمد لله أننا تجاوزنا تلك المرحلة، ولا أظن أن أحدا اليوم لا يزال يؤمن بعدم أهمية تعليم المرأة إلا فئة معزولة ونادرة، ولكن السؤال؟ عندما كان تعليم المرأة مؤامرة تغريبية في مرحلة من المراحل قبل قرابة خمسين عاما، ماذا لو تم الأخذ بتلك الرؤية؟ ما مصير الكثير من القطاعات التي تحتاج إلى المرأة اليوم؟ ما مصير كل أولئك العاملات والموظفات اليوم؟ سيذهب هؤلاء كلهن بجميع دخولهن ومشاركتهن الوطنية للبلد. وفي الحقيقة أن تلك المؤامرة التي قررها الملك الفيصل رحمه الله كانت مؤامرة إسلامية ناضحة، بينما كان يحاربها الفهم الخاطئ وقصر النظر وربما الجهل الكبير في الحياة المعاصرة آنذاك.

ذكرت هذا المثال لوضوحه كي يوصل الفكرة وليس لأجل المناكفة بين التيارات، وحاجتنا اليوم إلى الكثير من الإصلاحات الاجتماعية والفكرية كحاجتنا تلك الأيام إلى إدخال تعليم المرأة.

أعود للتساؤلات التي يطرحها البعض بحسن نية؛ لماذا لا نُنشئ جامعات هنا بدلا من الابتعاث؟

وهذا التساؤل يطرحه البعض بعفوية، وربما العرض السابق فيه إجابة، وهذا التساؤل نابع من تلك القناعة السابقة بأن الحضارة والتطور الذي نحتاجه هو مقتصر فقط على النواحي العلمية التجريبية، أما سائر ثقافتنا وأفكارنا فهي متطورة ومقدسة حتى لو كانت جامدة منذ مئات السنين! ويأتي هنا الخلط بين المعتقدات الدينية والموروثات والعادات. الأمر الثاني والأهم للجواب عن هذا التساؤل؛ أذكر أحد الخطباء المشاهير يتحدث بعفوية يطرح أن الدولة تستطيع فتح شركات إنتاج سيارات وطائرات.. لماذا لا يفتحونها ونتطور وينتهي الموضوع! وهو يتحدث بهذه البساطة والعفوية النابعة من الجهل الكبير بآلية عجلة الاقتصاد والصناعة المعقدة، فلا يمكن لك أن تنتج شيئا يكون ناجحا دون أن تكون لديك البنية التحية والبيئة المتكاملة لنجاح ذلك المشروع، فصناعة السيارات تحتاج إلى وجود قطاع مؤهل لصناعة المحركات وآخر للحديد وآخر للألمنيوم وآخر للطاقة وآخر للبلاستيك ..إلخ، وهكذا الجامعات المتقدمة، فهي تحتاج إلى كل تلك البنية المتكاملة لذات الغرض.

خلاصة الكلام؛ أن هناك أخطارا بلا شك للحفاظ على الهوية والحضارة الإسلامية ككيان مستقل، إلا أننا لا يمكن أن ننجح حتى في منافسة المد الحضاري الهائل والناتج من التنافسية العالية للطرح الثقافي المتعدد في الساحة؛ إلا من خلال شعورنا لحاجتنا إلى النقد الذاتي والإصلاح الفكري والحضاري والجذري للكثير من مفاهيمنا وأفكارنا.