بعد مرور 13 عامًا على زلزال 11 سبتمبر 2001 وتوابعه، وعقب مصرع زعيم "تنظيم القاعدة" أسامة بن لادن في 2 مايو 2011 بيد قوات أميركية خاصة سعت لاستبداله بمنظومة إرهابية جديدة ضمن سلسلة أجيال أفرزتها "التجربة الأفغانية"، فمن الرعيل الأول الذي ينتمي إليه ابن لادن وأيمن الظواهري ورفاعي طه ومحمد الإسلامبولي وغيرهم، مرورًا بالجيل الثاني الذي يُمكن أن نطلق عليه "القوارب الأصولية" لأن الأمواج حملتهم لأكثر من ميناء خلال الفترة الممتدة من خروج السوفيت لنهاية حرب الخليج الثانية عام 1992، فانتقلوا بين عدة دول أو عادوا لبلادهم الأصلية ليمارسوا فيها العنف بعدما تلقوا دورات مكثفة على قواعده وآلياته وخبراته.

حروب الجيل الثالث

نأتي للجيل الثالث من الحروب العبثية التي فرضتها سياسات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بالمنطقة، ومن أبرز سمات هذا الجيل أنه يتمتع بخبراتٍ أخطر كثيرًا من تلك التي كان يجيدها الجيلان اللذان سبقاه، فتدرب على استخدام الأسلحة المتطورة الثقيلة، وأجاد التعامل مع الإنترنت، وأتقن اللغات الأجنبية، فضلاً عن أنهم كانوا من شتى الدول العربية وحتى الأوروبية ليظهر تنظيم "داعش" وتجلياته التي تحمل أسماء مختلفة بامتداد خريطة المنطقة، فهذا الجيل لا يتسم بمركزية "القاعدة" بل يتبع منهجًا بالغ الوحشية.

وترجع قصة "داعش" لعام 2004 وكانت النواة الأولى للتنظيم "جماعة التوحيد والجهاد" بالعراق، بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، قبل تحولها لتنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين" بعد مبايعته لأسامة بن لادن، وعقب مقتل الزرقاوي في 2006 اختير أبو حمزة المهاجر زعيمًا جديدًا للتنظيم قبيل تشكيل "دولة العراق الإسلامية" بزعامة أبي عمر البغدادي نهاية العام ذاته، لكن بعد مصرع المهاجر وأبي عمر البغدادي تسلم أبو بكر البغدادي زعامة التنظيم بعام 2010، وعقب انسحاب القوات الأميركية من العراق نهاية 2011، شن تنظيم "دولة العراق الإسلامية" حملة تفجيرات بشتى المدن العراقية خاصة في العاصمة بغداد، حصدت آلاف الضحايا، لكن التنظيم تلقى ضرباتٍ قاسيةً، خاصة مع ظهور "مجالس الصحوة" وهي تجمعات عشائرية تأسست لمواجهة "تنظيم القاعدة" بمناطقهم فأوشك أن ينتهي التنظيم، لكنه عاد ليستجمع قواه، وفي عام 2013 أعلن التنظيم اندماجه بجماعات مسلحة بسورية أبرزها "جبهة النصرة" التي رفضت الاندماج، مما تسبب في اندلاع معارك بين الطرفين في يناير 2014 ولا تزال مستمرة حتى الآن، لهذا عمل بمفرده معتمدًا على تجنيد "فلول القاعدة"، أو بعض التكفيريين الذين يجري تجنيدهم بشتى الدول تحت اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" والمعروفة اختصارًا "داعش" والتي صارت الجيل الجديد من "القاعدة 2014".

تفكك "القاعدة" وتشرذمه

وقد تبدو للوهلة الأولى هذه التفاعلات نتائج منطقية لتفكيك "القاعدة" وتشرذمه، لكن تسريبات استخباراتية تحدثت عمن وصفته بتعبير "مستر إكس" أو مهندس الكواليس الذي يخطط ويفكر لتتحول تقديراته ورؤيته لركيزة تغييرات هائلة طرأت على السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، والذي اتضح مؤخرًا أنه ستيفن والت، وهو بروفيسور بجامعة هارفارد الذي سبق له أن طرح أفكاره في مقال نُشره موقع FP.com قدم خلاله مبررات تؤيد سياسة واقعية تقوم على "توازن القوى" وإن المشكلة المحددة التي تواجه صانع السياسات الأميركية تشمل التوصل لسياسة مماثلة في الوقت الذي تحتفظ فيه واشنطن بعلاقات مميزة بالقوى الإقليمية"، كالسعودية ومصر، ورفضهما التعاون ضمن منظومة أمنية تشمل إيران وتسعى واشنطن إلى تشكيلها لملاحقة تنظيم "داعش" لاعتبارات سياسية معقدة، وتراث طويل من انعدام الثقة بأهداف طهران التوسعية، ودورها بسورية ولبنان والعراق.

توازن جيوسياسي

بعدها مباشرة تحدث الرئيس الأميركي باراك أوباما في مقابلة لمجلة New Yorker قائلاً إن أهداف إدارته بالشرق الأوسط تتمثل في التوصل إلى "توازن جيوسياسي" بين "دول الخليج السنّية وإيران بحيث يؤدي لما وصفه بالتنافس والصراع، دون إشعال "حروب دموية" بل حروب بالوكالة - على حد تعبيره -.

وفي تقرير مفصل أعده ديفيد روثكوف، رئيس تحرير المجموعة الناشرة لمجلة "فورين بوليسي" اعترف فيه بأن خطر "داعش" يُقزم خطر "القاعدة الأم" ويتجاوزه، فبتحويل التنظيم لعنصر يجذب متطرفين أينما كانوا في العالم، يجعل الإدارة الأميركية تتعامل مع التهديد باعتباره الأكبر والأخطر حتى من "القاعدة" ذاتها، فقد وحد "داعش" الوحشي مصالح الأمن القومي لعدد من اللاعبين المختلفين سواء كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي والأردن والعراق وسورية وحتى إيران وروسيا وغيرها للضغط على "داعش" ويمكن أن يؤدي لما أسماه "الضغط على البالون" فكلما ضغطت على جانب برز الآخر، ولو ضيقت الخناق على التنظيم بالعراق سيظهر بسورية لو تقاعست عن التحرك الفعال ستجد واشنطن نفسها أمام خطر لا يمكن تجاهله.

وبعدما اتضح حجم مخاطر التنظيم وأبعادها الإقليمية، قرر أوباما إرسال سفن حربية للخليج، ومعها عناصر من القوات الخاصة للعراق، فضلاً عن الجولات المكوكية لوزير الخارجية جون كيري بالمنطقة لحشد التحالف، وبالطبع فإن الخطوات التي اتخذتها الإدارة الأميركية جيدة، لكن مدى التصميم والعزيمة الجادة لأوباما ومساعديه ما زالت موضع اختبار، خاصة مع تقدم "داعش" بالعراق.

الإعلام والإرهاب

وخلال الجلسات المغلقة لاجتماعات وزراء الخارجية العرب الأخير بالقاهرة الأحد 7 سبتمبر الجاري، نشبت خلافات بين ممثلي دولتين بعد اتهام إحداهما للأخرى بتمويل ودعم تنظيم "داعش"، الأمر الذي أثار أزمة، وقال دبلوماسي مصري شارك بالاجتماع - فضل عدم ذكر اسمه - إن ممثل أحد الدولتين خلال صياغة القرار الخاص بتنظيم "داعش" طلب الإشارة لدعم إعلامي تقدمه بعض الدول مما أثار اعتراض ممثل الدولة الأخرى، وتوصل المجتمعون لصيغة عامة تطالب بفقرة مبهمة دون الإشارة لدولة بعينها، وتمت الموافقة بأن تكون الصياغة بدعم جهود التصدي لوسائل الإعلام الداعمة للإرهاب والتي تؤجج صراعات طائفية.

ورأى الدبلوماسي المصري أن تنظيم "داعش" أشعل خلافات قائمة بالفعل بسبب الاختلافات السياسية، مؤكدًأ أن اعتراض ممثل إحدى الدول لم يثن وزراء الخارجية عن إضافة الفقرة، خاصة أنها لا تحمل اسم وسيلة إعلام عربية بعينها، بل هو قرار عربي لكافة وسائل الإعلام التي تروج لأفكار وممارسات الجماعات الإرهابية، وتبرر إثارة الفوضى والعنف بالمنطقة.

جيل الدواعش

وكما أسلفنا فقد أسهمت خبرات الجيل الثالث من المنظمات الإرهابية مع قدراتها المالية الضخمة من عوائد النفط وتمويل بعض الدول الإقليمية، بتأسيس ما أصبح يطلق عليه بعد أحداث سبتمبر أميركا الأسود، بالخلايا النائمة التي أيقظتها تدابير استخباراتية أميركية حفزت قيادات "الأممية الأصولية الجديدة"، التي باتت تشمل التنظيم الدولي للإخوان كواجهة سياسية بعيدة عن المشهد الميداني، خاصة بعد الضربة الموجعة التي تلقتها بمصر، وهنا تجدر الإشارة لمُعلم ابن لادن وهو الفلسطيني الإخواني عبدالله عزّام، الذي يؤكد العلاقة التاريخية بين التنظيمات الإرهابية و"صقور القطبيين" الإخوان، على الصعيدين التنظيمي والفكري.

وانتشرت بين "جيل الدواعش" عناصر أميركية وأوروبية ويضم التنظيم قرابة ألفي مقاتل من أصل مغربي قدموا من فرنسا بينهم خمسة يتولون مناصب قيادية، فضلاً عن امتداداته المحلية بشتى الدول العربية، ولم تتوقف طموحاته عند عمليات الاغتيالات والتفجيرات، بل تجاوزته لمحاولة فرض "شرعية العنف المقدس" التي دعمتها قوى إقليمية لمؤثرات تصفية حسابات وطموحات سياسية، فراحت تدعم التنظيم ماليًّا ولوجستيًّا، ليصاب الواقع السياسي العربي بحالة ارتباك حيال هذه الظاهرة الوحشية، تمامًا كما حدث عندما غزت قوات صدام الكويت.

"الخلطة السحرية"

وهكذا تقودنا لعبة أجيال "الأممية الإرهابية" للتعرف على أدواتهم، وفي مقدمتها ملف تسلح وتدريب هذه الحركات ورصد النقلة النوعية الهائلة التي شهدتها إثر تحول أنشطتها من الصعيد المحلي للمسرحين الإقليمي والدولي، وما ارتبط بذلك من تغييرات في الاستراتيجية التي تحكم تلك المنظمات، فضلاً عن الخطاب السياسي الذي يتبلور ليقفز على قضايا الأمة المحورية كفلسطين.

ومنذ سبعينات القرن الماضي اعتمدت السياسة الأميركية خاصة والغربية عمومًا "الخلطة السحرية" تتألف من أموال النفط ببعض الدول التي تعصف بها الفوضى كالعراق وليبيا، والنزعات القبلية وتنامي الأصوليات التي سبق أن حققت أهدافها من قبل في مشروع تفكيك "الخطر الأحمر" ممثلاً بالاتحاد السوفيتي، فقد حان أوان "الخطر الأخضر" ولهذا تنبغي مواجهته بجيل جديد من المنظمات المتطرفة التي ستنشط هذه المرة بالشرق الأوسط، مستغلة ما اصطلح على تسميته بـ"ثورات الربيع العربي".

عود على بدء فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي اندلعت حروب عبثية بين "ميليشيات الجهاديين" وجرت مياه كثيرة بالمحيط الأطلسي والخليج العربي والمتوسط والأحمر ودجلة والفرات، وكاد الزمام أن يفلت من يد الأميركيين.. فقرروا إدخال بعض التعديلات على "الخلطة التاريخية" وجرى استبدال المجاهدين القدامى، بتكفيريين جدد ممن ربتهم أجهزة مخابرات إقليمية لصالح أجهزة أميركية وقدمت معهم "شهادة ضمان" بألا يخرج هؤلاء على النص، وسيقدمون الذرائع للتدخل العسكري والسياسي بمزاعم مثل مكافحة الإرهاب وحماية الأقليات، وهكذا انطلقت ماكينة "تفريخ الدواعش" وتسليحها وغضّ الطرف عنها، حتى استولت على مناطق في العراق وسورية وليبيا ومالي وصولاً للبنان وغيرها.