لا أدري لماذا أشعر دائما أن "نزاهة" تسعى في الغالب لتجنب ومحاشاة قضايا الفساد الفادحة، وتتجه لمباشرة الاهتمام والتركيز على قضايا أظنها ثانوية أو هامشية.

لقد كانت آخر إقلاعات "نزاهة" تحذيرها لموظفي الدولة من الكلام والوقوع في شرك الأحاديث الجانبية بين زملاء العمل واعتبار الإمعان في ذلك جانبا من جوانب الفساد.

بالنسبة لي، فإن قضايا الاختلاسات والرشاوى وما ينتج عنها من إفساد أو تعثر أو محسوبية أو إنقاص في المواصفات وغيرها من أوجه الفساد هي الأولى والأجدر بالمتابعة والمحاسبة وإشهار العقوبات وتطبيقها لردع الآخرين.

لو قامت "نزاهة" بعمل استبانة تتعرف خلالها على تقييم المواطن للفساد وعن مدى ظنه بانتشاره في الأجهزة الحكومية، وعن حجم ثقة المواطن في الإجراءات المتخذة لمواجهة استشرائه، لربما كان ذلك نقطة مضيئة قد تتلمس خلالها "نزاهة" حجم اليقين الراسخ لدى المواطن بأن الفساد -مع بالغ الحزن والأسى- يدب وينتشر في أوردة القطاع العام، حتى بات التعايش معه كحقيقة أو كمسلمة أمر ثابت لا يتزعزع، لكن المواطن كان يأمل من "نزاهة" أن تزعزع هذه الحقيقة، وأن تنفيها من خلال مباشرة القضاء على هذا الفساد الذي لا يتدثر أو يتخفى؛ لأنه لم يجرب الخوف من العقاب، وذلك لأنه لم يجرب العقاب أصلا، بل كان أخوف المخاوف عند "الفاسد" أن يقال له اذهب في سبيلك فأنت لا تصلح: للوظيفة أو لا تصلح للقضاء أو لا تصلح للمناقصات أو لا تصلح للإشراف على المشاريع أو لا تصلح كمقاول أو لا تصلح للتفتيش على صحة البيئة أو لا تصلح لتقييم مواصفات المشاريع الصحية أو المدرسية أو لا تصلح لمراقبة تنفيذ المجاري أو تنفيذ الطرق.. وهكذا يمضي المفسد ليعلم الناس فيما بعد أنه قد ذهب بما نهب.

ثم إن على "نزاهة" أن ترصد انطباعات الناس عنها وعن أدائها، وهل هو على قدر المؤمل. فإن لم يكن كذلك فما هو المؤمل؟

لقد استبشر الناس كثيرا بإنشاء هيئة مكافحة الفساد وتوجس المفسدون خيفة مع بواكير إنشائها، لكنهم أدركوا تباعا أن يد الهيئة -كما يبدو- قاصرة وأن صلاحياتها أقل شأوا من تحقيق الرغبة التي كانت معلقة على عاتقها والآمال المرجوة من وراء تأسيسها.

وهكذا فإن هذا القنوط الشعبي هو الذي أعاد عجلة الفساد للدوران بعد أن استكانت وهدأت لبعض الوقت هلعا وحذرا، لكنها مع مرور الوقت أدركت أن حدود "نزاهة" هي القضايا الصغرى، التي لا تصل إلى العظم بما يُفهم منه بأن "نزاهة" قد وضعت في بداية طريق "الفساد" كفزاعة تخيف بها المرجفين وذوي القلوب الضعيفة قبل دخولهم للحقل، لكنها لن تقوى على ذوي القلوب الصلبة التي لا تخشى العيب ولا الحرام ولا تخشى لومة لائم ولا يهمها شيء وهي ماضية في تحقيق أهدافها.

ربما يكون تحذير "نزاهة" لموظفي الدولة ومنعهم من "السواليف" والكلام أثناء الدوام من باب منع صغائر الفساد؛ للحيلولة دون أن يتحول إلى كبائر، وهي تنطلق في ذلك من حقيقة أن النار من مستصغر الشرر.