في مقعده الهادئ يرتشف قهوته ويشرد بذهنه للبعيد البعيد. يتفحص عالمه الذي لا يراه سواه. فيم يفكر يا ترى؟!

أفي المجد، أم في المال، أم في شؤونه الخاصة؟

بطبيعة الأمر الأدباء والمفكرون لا يذهبون إلا إلى عوالم تتفجر في أذهانهم! يخترقون فضاءات الأفق الرحبة التي لا يجتالها سوى المبدعين، فيهيمون في فلك محوره الإبداع والخيال ونحت عوالم من طوع خيالهم! يصلحون ما تفسده العقول البشرية اللا واعية فينهضون بأممهم ويصنعون تاريخها وحضارتها.

فهل قدرتهم دولهم حق قدرهم؟ وهل يعيشون متأملين فلا تفرغ جيوبهم؟! وهل يؤثر خواء الجيوب على إبداعهم؟

تساؤلات ملحة ومثيرة، تساءل عنها الكثير، وأجاب عنها الكثير بأن "الفقر سيد الموقف وهو مولد من بطنه ما يحدث وما يصقل رجاله الشجعان والمفكرين والعباقرة والأدباء والشعراء والأكاديميين، فإن التجربة المرة في الحياة لا يمكن الاستغناء عنها، ولا يمكن لعقل أن يهملها، ففي عقباها الأثر الطيب.

أما مسألة الترف البغيض والثراء الفاحش التي حالت بين العقل والشهوة أية تصفية حساب أو جذوة تحيا بها، فهي جعلت المترف في صراع على أن يكتب شطرا من بيت شعر، فضلا عن كتابة الروايات المصقولة المخضرمة، فضلا عن كتابة الأدبيات الخالدة والأبيات التي سارت بها الركبان فلا يستطيع".

وأعتقد أن هذا القول يجانبه الصواب، ذلك لأننا رأينا عباقرة أغنياء، أمثال أحمد شوقي وجان راسين الذي يصنف من طبقة أصحاب الرداء، وتوفيق الحكيم ويوسف وهبي ومحمود سامي البارودي وغيرهم.

ومن هنا، فلا نناقش أثر الفقر على الإبداع والعبقرية، وإنما نطرح التساؤل الجامح دون إجابة، لماذا لا تهتم المؤسسات والدول بعبقريات بلادهم، فتدعهم فريسة للفقر الذي أدى بدوره إلى الجنون لدى بعض الملهمين من أبناء جلدة أوطانهم! فقد كانت الدول تتناحر على غصن الغار الذي ستكلل به مسرحية من المسرحيات في مسابقات عيد اللينايا في أثينا، لأن المجد سيكون للدولة الفائزة، ولهذا تركوا لنا أثرا تقتات عليه باقي الثقافات حتى يومنا هذا!

فها هو الشاعر العبقري "ابن مهرة" جُّن وأصبح يقتات بأبياته. يذكر أنه دق باب أحد الأثرياء يطلب طعاما، فأجابته الخادمة: لن تأخذ طعاما حتى تقول قصيدة في هذا الباب، وعدّت ذلك تعجيزا له، فأنشد يقول:

يا باب واردومك من الصر عتما

وآرى لك أصراف سماح وليمات

عين ابن مهرة من البكا صرعت ما

والآدمي يصبر لحكمه ولو مات.

أما وخاصة في وقتنا الحاضر بما له من متطلبات لم تعد تجعل الفرد يحيا تحت أغصان الشجر ويقتات التمر واللبن، وإنما الحضارة الحاضرة، والمادة أيضا فرضت نفسها على كل بني البشر جعلت السعي وراء القوت هو الشغل الشاغل وليذهب الإبداع إلى الجحيم، فتسود حالة من مُدَّعي الثقافة وتسوَّد الصفحات بالخوار غير المحتمل.

لنذكر الشاعر والمسرحي نجيب سرور حينما قال أحد أصدقائه "عبدالعظيم قباصة" فيما أسماه شهادة حق: "أتغنى بموهبة نجيب سرور التي هي أكبر من قدرتي على النقد، ولكنني سأكتفي بمشهد يلخص القيمة الأهم في حياته: الرجل الموهوب المظلوم يعيش في شقة خاوية بميدان الجيزة، يعاني من مضاعفات مرض السل ولا يملك تكاليف العلاج، ولا يملك أي مصدر دخل ينفق منه على ابنيه وزوجته، يتلقى اتصالا من مسؤول كبير بوزراة الإعلام يطلب مقابلته، فيسير من ميدان الجيزة حتى ماسبيرو لأنه لا يمتلك أجرة المواصلات، يقابل المسؤول فيقدم له عرضا مغريا، تأليف وإخراج خمس عشرة مسرحية لحساب التلفزيون المصري، على أن تكون كلها مسرحيات صيفية خفيفية تحتوي على أغان ورقصات دون "كلام كبير" مما اعتاد عليه نجيب، نظير الحصول على خمسة آلاف جنيه عن كل مسرحية، فيكون رد نجيب سرور بمنتهى البساطة أن يغادر المكتب ويعود ماشيا لمنزله، ليموت بعدها بأشهر قليلة دون أن يترك لأبنائه أي شيء سوى سيرته الطيبة، ونزاهته التي يشهد بها العدو قبل الصديق". فيقول نجيب سرور:

وعرفتُ سرَّ الصمت.. كم ماتت على شفتيَّ في المنفى الحروف!

الصمتُ ليس هنيهةً قبل الكلام،

الصمتُ ليس هنيهةً بين الكلام،

الصمتُ ليس هنيهةً بعد الكلام،

الصمتُ حرفٌ لا يُخَط ولا يقال..

الصمتُ يعني الصمتَ.. هل يُغني الجحيم سوى الجحيم؟!

وتشابه هذه الأبيات أبياتا أخرى قالها الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، الذي لقب بسفير الفقراء حين يقول:

سكات سكات سكات

حواديت ورا السكات

مليان كلام لكني

أخرس من السكات

سكات سكات سكات

مات الكلام وبات

جدار لألف دار

يبادلوني السكات

سكات

سكات

سكات

لكن لسكاتنا معنى

أنطق من الكلام .

أحمد فؤاد نجم زرته ذات مرة فوجدته يسكن في مساكن الزلزال بالمقطم، في شقة صغيرة، بل يجلس في غرفة خشبية على سطح منزله نصعد له بسلم خشبي "نقال" وفي هذه الغرفة يزوره أكابر البلاد شرقها وغربها! أذكر ذات مرة أن أحد رجال الأمن فتش حقيبته على باب أحد المسارح فلم يجد فيها سوى قلم رصاص، وهو فعلا رصاص!

وفي ذات يوم زارني شاعر كبير، أحتفظ بذكر اسمه، وكان يطلب مني أن أشتري مكتبته كي يزوج ابنه! كيف؟ ودواوينه ومجلداته تملأ الدنيا ضجيجا. وما أشبه أبياته بسابقيه حين يقول:

أضمّ يدي على جرحي

وأخنق في قرار القلب تنهيدة

وأمضي في الأسى وحدي

وليل الصمت يطويني

وأشرب خيبة الكلمة

وأجرع غصّتي والحزن يضنيني.

ويمضي حتى يقول:

أهانوا عفّة الكلمة

أرادوا الموت للكلمة

أرادوا الصمت للشاعر

ولا ننسى المسرحي والناقد عبدالرحمن المريخي، رحمة الله عليه، وكيف أثرى المسرح السعودي سواء للطفل أو للكبار واحتضانه الشباب وتعليمهم المسرح، حتى وافته المنية، لم يترك سوى آثار من الإبداع المسرحي تخلد مع الزمن.

لغز محير معاناة المبدعين! ولكن عندي إجابة واحدة قد تختلف عن كل الإجابات، وهي أن المبدع لا ينظر إلى ظاهر الأشياء، بل ينظر إلى جوهرها، فيرى ما لا يراه الناس، ويمتلئ غِنى لا يمتلكه غيره فيعانق السحاب بينما الناس يزحفون.