لا كُفْر يشبه الجحود؛ فهو دناءة في ذاته بوصفه إنكارا وتنصلا ومناقضا لشيمتي: الوفاء، والشكر، وهو – إيضا - إيذاء بوصفه فعلا ذا أثر يتعدى إلى "المجحود" بالإيلام، فلا يتوقف عند الفعل نفسه، وإنما يمتد إلى المجحود بوصفه مظلوما ظلما مضاعفا؛ لأنه – بطبيعته البشرية – يتشوف الوفاء والإنصاف، ليُصدم - في الوقت الذي يتوقعهما – بالجحود، وهو نقيض المروءات والشيم التي دأب العربي على الفخر بها، فيما يتخلى الجاحد عنها عامدا، لأنه "براجماتي"، أو "نذل" أو "قليل خير"، أو "عديم تربية".

الجاحد "نذل" ولئيم بامتياز، فالعرب تقول: "عادة الكرام الجود، وعادة اللئام الجحود"، ولفظة: "اللؤم" رفيقة رقيقة عندما يوصف بها الجاحد؛ لأن فعله مناقض لأيسر "الأخلاقيات"، فضلا عن أن الوفاء، لا يحتاج إلى جهد كبير، بقدر حاجته إلى إنسانٍ سوي، لا يشعر بنقص، أو يستمع إلى الوشاة الذين يريدون به الشر، قبل أن يريدوه لمن يشون به عنده. والجاحد "بالنيابة" أسوأ الجاحدين، لأنه جاحد مُسيّر، أو جاحد "إمّعة"، يتّبع الناسَ في الإساءة دون أن يتّبعهم في الإحسان، فضلا عن أنه ليس ذا قرار، أو رأي، أو استقلال، أو قدرة على التمييز.

وأسوأ الجحود وأقساه، جحود الفعل الذي يهدف منه صاحبه إلى مصلحة الجمْع - أهلا ووطنا - لا مصلحة الفرد؛ ذلك أن الفاعل من أجل الجمْع، يتفانى ويضحي ويصارع ويعاني، وقد يتأذى؛ ولذا يكون الوفاء معه "بلسما"، ويكون جحود فعله شبيها بإعادة آلام معاناته، وجراح صراعاته، إلى قطرتها النازفة الأولى، مما يجعل جحود الفعل العام الذي لا يهدف فاعله إلى كسب، أو مصالح ذاتية، جحودا في الدرك الأسفل من الجحود، وبالتالي يكون ناكرو الفعل من أجل الجمع، في الدرك الأسفل من "اللاإنسانية".

وأسوأ مِن أسوأ الجحود، أن يرافقه أذى متعمد، إذ لا يضيفه إلى "النكران"، سوى أحد ثلاثة أشخاص، أو إحدى ثلاث فئات:

أولاهما: فئه المُغرر بهم، من الذين يجحدون ويؤذون، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ويقيمون معوجا.

والأخرى: متحينون، أو متسلقون، يظنون أن جحود الآخرين، وأذاهم، طريقهم الوحيدة نحو تحقيق ذواتهم وأهدافهم، وهم – على الدوام – يدركون أنهم عاجزون عن تحقيقها بقدراتهم الضعيفة، فيلجؤون إلى صناعة أسباب جحود سابقيهم، من أجل "الإحلال"، أو "الاحتلال"، وذلك وهمٌ عظيم؛ لأنه لا بقاء ولا نجاح - في حالات "الصلاح العامة"، وسيادة العدالة - إلا للأقدر والأصلح.

والثالثة: المصابون بداء الانتماءات الضيقة، ممن يهمهم جحود فعل غير المحبوسين في "ضيقهم الانتمائي"، لتستتر أفعال غيرهم، وتظهر أفعال المنتمين إلى دوائرهم الصغيرة!

وأقسى الجحود على الإطلاق، هو الصادر عن مجتمع كامل. وما أكثره!

جاء في "لسان العرب": "..والجَحْدُ والجُحْدُ، بالضم، والجحود: قلة الخير".

وعليه، فالجاحد ذو خير قليل، ونصيبه من "الحسنات" و"الشيم" و"المروءات"، قليل.. قليل.

ربّاه: لا تجعلنا من ذوي الفضائل القليلة، واجعلنا مثل مَن "أدبته فأحسنت تأديبه" صلى الله عليه وسلم.

ربّاه: لا تجعلنا من الجاحدين، لئلا نكون سببا في دمعة "مجحود"، أو غبْنه، أو "قهره"، أو فواته.