كان أحد الكتاب البارزين قبل قرابة الربع قرن يسخر من الذين يطرحون سؤالا يقولون فيه: بعد دخول صدام إلى الكويت هل يمكن أن يبقى واقع المنطقة بعد الاجتياح مثل حالها قبله؟

وحصل في تلك الأيام أن كبسولة فضائية لـ"ناسا" بها اثنان فقط من رواد الفضاء وأصبحت مستقرة في الفضاء الخارجي، فخرج أحد الرواد كالمعتاد لإصلاح شيء في هيكل المركبة وعند عودته وجد الباب مغلقا فطرقه، فأجاب زميله بالداخل قائلا: من؟! وهي نفس الغرابة أو الطرافة ممن يسأل ليقول: هل سيبقى واقع المحيط والمنطقة بعد ظهور "داعش" مثل حالها قبله؟

فحاجة الأمم للاعتراف بوجود المشكلات وتشخيصها أهم وأصعب من حاجة الأفراد لذلك، إلا أن الطروحات ينبغي أن تتحدث عن أسئلة مثل: هل "داعش" الإرهابية تستحق كل هذا التداعي العالمي؟ وهل هذا مؤشر بأن الإدارات الأميركية ما زالت قادرة على جمع الحشد الدولي بعد الانكماش والركود الاقتصادي العالمي في العام 2008؟ وهل أسلوب شرطي العالم هو من صنع الخوف، أم أن أمر "داعش" مروع جدا تجاوز استفادات الأنظمة القمعية من أمثال "داعش"، فلم تعد حالة تضخيم مفتعلة من الحكومات لإيقاف إصلاحات سياسية أو التهرب من ضرورات الواقع إلى وجود خطر واضح يبرر هذا الحشد؟ ويستدعي ذلك المنطق ألا يقتصر عمل المحلل السياسي أو الراصد الفكري لحركة إرهابية مثل "داعش" أو "بوكو حرام" على عرض الخبر، فمجرد توصيفها بأنها حركة متطرفة وإرهابية لا يكفي من عالم تهمه الدراسة المتعمقة بحجم الوقائع، فإن كانت "القاعدة" نشأت لأسباب عدة في وقتها فإن لـ"داعش" بالمقابل أسبابها، فلقد كشف الإعلام الجديد فقدان العدالة الاجتماعية الذي لا يمكن تغييبه عند تحليل أسباب نشوء حركة متطرفة مثل "بوكو حرام"، فلقد تداول الناس في شبكات التواصل الاجتماعي صورا لمناسبة اجتماعية لأحد المتنفذين في نيجيريا وهو يوزع أجهزة هاتفية مطعمة بالذهب والألماس وغالي الجواهر، بينما تمر أنابيب النفط فوق وجوار منازل صفيح وسعف أولئك النيجيريين! فمن الطبيعي وجود "بوكوحرام" ونشأتها في ظل إهدار حكوماتها المتعاقبة حقوق الإنسان في كل صورة، ثم تطلب من العالم مساعدتها على "بوكوحرام" التي تهدر هي الأخرى الدماء وكرامة الإنسان، وهي تمثل إحدى تلك الصور، ولا يمكن أن يكون ذلك السبب الوحيد لنشوء التطرف، بل إن "داعش" نشأت بعد مراحل فشل "أوسلو" واليأس من حلول سياسية كانت نتيجتها إصغاء فئات من الشباب إلى أن الحل بالسلاح هو الذي يمكن سماعه وليس السياسة. وكذلك نشوء فراغ اجتماعي، بل قد يكون السبب فقدان النموذج الأخلاقي والمرجعية التوجيهية في أذهان الكثير من الفئات الشابة، تلك التي ترى عدم تمايز مرجعياتها ونخبها عن أصحاب السلطة.

ويبقى الوعي الفكري وفهم السبب يطرحان الحل بتفعيل أدوار حقيقية للشباب لممارسة قدراتهم في صور مستقلة لا يملؤها الخوف أو الشروط، وإعادة إحياء ما قتله الخوف والحذر أو تغلب عليه فيمن يعيش خارج الزمن، ومن المهم تفعيل الحريات والتنوع في الرأي والاختيار الشخصي والفقهي والفكري وحمايتها القانونية ووأد الفكر الطائفي المخيف.

أيضا، مراجعة الضخ المستمر لتقديس التأريخ أو غيره مما لا يقدس، وإعادة النقد الموضوعي لأذهان الأجيال التي تطالب عمليا بعودة العقل الإسلامي لتمحيص الخرافات التي تكدست ودست في الكثير من كتب التراث، فقد عملت الدول والسلطات المتعاقبة في التأريخ الإسلامي منذ عصر بني أمية وما تلاه من العصور على توظيف الدين للمصالح، والتي ألغى الكثير منها الدور المهـم للعمل المفيد وحسن التواصل، كما حاربت الإنتاج في كل مفاهيمه ـ عدا التناسل والجهل ـ ومن المهم فتح المجال للسماوات المفتوحة للثقافة بأن يُجلب المفيد منها ـ وهو كثير ـ كنوع من الاعتراف الواقعي والعملي بالعصر الذي نعيش فيه. وكذلك إصغاء حقيقي للناس من قبل الأنظمة المسيرة للمجتمعات لقطع الطريق عن الحاضنة الاجتماعية للتطرف، إذ أصبحت هناك صبغة تكاد تكون مكرورة، وهي أن الكثير من الأنظمة في العالم الثالث لا تستمع إلى رأي أو استشارة، أو تأتي بمن لا يستشار لسد فراغ إداري لا أكثر، فتقع الأحداث في تلك البلاد أو في محيطها وكأنها حدث مفاجئ، فضلا عن الفقر العلمي وأحد مظاهره عدم وجود مراكز الأبحاث والاستشراف السياسي والاقتصادي، وأهمها سبر المتغيرات، وإن كان وجود مثل هذه المراكز ـ في صورتها العملية ـ مرتبطا بمنظومات مؤسسات المجتمع المدني والحرية العلمية والمجتمعية، فبقاء الكثير من الواقع العربي على حالته الراهنة لن يجعل الاحتقان خاصا بالأفكار، بل سيتعمق ويصبح أكثر خطورة فيما يخص التكتلات الاجتماعية والقبلية والمناطقية، بل وستتشكل أساليب جديدة للتطرف نحو اليسار بمقدار تزايد تطرف اليمين، فعدم ظهور الثاني بوضوح لا يعني عدم وجوده، بل إن البعض منها ينقصه المحرك أو المنظر أو الداعم.

وبالتزامن مع هذا كله، يمكن تنوير المجتمعات بأن الفكر الوطني لا يخالف الدين أو العقل، وما تم تفعيله سابقا لم يلب أي مطلب إنساني لعدم استكمال شروطه الإنسانية، مع إبراز وتقديم النموذج الأفضل المعاكس لـ"داعش" في إهدارها لحقوق الإنسان، وبتوجيه مدروس لمعنى المظلومية التي ارتبطت بالشخصية المسلمة لأسباب موضوعية، وضرورة أن تستيقظ الحكومات العربية التي تحسب أن إعلامها المحلي بقي له أثر أو تأثير، أو أن أحدا يأبه به، وبناء عليه يتأكد أن الحلول الأمنية والعسكرية هي المنطق بلا شك لحاملي السلاح، لكنها لن تثمر مع "القابلين للتدعيش"، فإن لم تكن هناك حزم كاملة للحلول فلا يتفاجأ أحد بأن تفرخ "داعش" دواعش أخرى، ويأتي بعدها ما هو أشد شرا منها، وقد صرح بذلك في أغسطس الماضي مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية جيمس كلابر عن "ظهور جماعات لن تقل في خطورتها عما يسمى بتنظيم "داعش"، تلاه في نفس الشهر ويسلي كلارك ـ القائد السابق لقوات الناتو في أوروبا ـ ليقول نتائج دراسات أوروبية مطولة ويختم بما ترجمته cnn العربية بـ"داعش خطرة على الكثير وأشد خطورة على البعض وعلى هذا البعض أن تقتلع شوكها بيديها".

وتبقى القدرة على اقتلاع أشواك التطرف الداعشي بكل وسائله الفكرية والثقافية آكد ما تكون بحلول عقلية جريئة، وتنازلات سياسية مرنة لصالح أفكار المجتمع المتقدم المشارك، وإلا فإن حدائق الأشواك ستزهر آلاما، ونكون مثل رائد الفضاء ونكرر لزارع الأشواك: من؟