إذا كانت الأنظمة والقوانين تتضمن عقوبات واضحة وصريحة ضد من يقوم بالسب والشتم والقذف والتشهير، فلماذا لا توجد قوانين وعقوبات ضد من يقوم بإثارة الفتنة الطائفية بين أبناء الوطن الواحد؟

ذكرت مصادر صحفية، أن عددا من أعضاء مجلس الشورى قد تقدموا بمشروع نظام "لتجريم الممارسات الخارجة عن الإجماع الوطني"، كما ذكر أحد أعضاء المجلس أنه قد سبق وأن تقدم بمشروع مماثل "لتجريم إذكاء الطائفية والقبلية والمناطقية في المجتمع السعودي باسم مشروع الوحدة الوطنية"، وبحسب قوله فإن المشروع دخل في: "دائرة التعطيل"!

وفي هذا الصدد، حذر العديد من الكتاب والمثقفين من خطورة الإعلام الطائفي الذي انتشر اليوم بشكل كبير وسريع ولا يوجد من يوقفه، الذي قد ينتشر بين أجيال الشباب والفتيات وطلاب المدارس، وبالتالي التورط في صراعات طائفية ومواجهات مذهبية، مطالبين بضرورة إغلاق القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية التي تغذي الطائفية وتؤجج الفتن وتبث سمومها في المجتمع المسلم.

والسؤال المطروح هنا: ما السند النظامي الذي يمكن من خلاله إغلاق القنوات الفضائية المحرضة ومعاقبة أصحابها في ظل غياب القوانين التي تجرّم الطائفية؟ فالبعض يقول إن هذه الفضائيات لا تقع تحت سلطة وزارة الثقافة والإعلام - وإن يكن ذلك - فلو افترضنا أنها تقع تحت سلطة الوزارة فعليا، فما العقوبات التي ستفرض عليها؟ ماذا عن الوسائل الإعلامية الأخرى كالخطب في منابر المساجد، وكذلك الكتب والمؤلفات، فهل ستكتفي الوزارة بمنعها فقط؟ فمجرد غياب القوانين يعني السماح الضمني للإعلام أو الخطاب الطائفي بممارسة جرائمه في التحريض!

أما بخصوص تأخير أو تعطيل مشروع نظام تجريم الطائفية، فأستطيع القول إن هناك ممانعة غير مباشرة له، سببها الخوف من التعددية المذهبية في المجتمع! فقد دأب رجال الدين في أي مجتمع على اعتبار مذاهبهم خير المذاهب، ولهذا نراهم لا يعرفون من دنياهم سوى مدح وتمجيد مذهبهم وثلب مذاهب الآخرين والطعن فيها، فهم يرون الفضيلة والخير في التعصب المذهبي أو الطائفي، والفاضل هو الذي يدافع عن طائفته في الحق والباطل!

إن مفهوم التعددية المذهبية كما يعرفه البعض يعني: "وجود تنوع في الانتماء المذهبي في مجتمع واحد، واحترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من اختلاف" وعلى هذا الأساس فإن هذا المفهوم يتضمن الإقرار بأنه لا يحق لأحد إقصاء ونفي الآخر، وضمان حرية التفكير والتعبير المذهبي للجميع، والمساواة في ظل سيادة القانون.

وهذا المفهوم للتعددية المذهبية لا يقبل به العديد من رجال الدين، فهم قد اعتادوا على الرأي الأوحد، فلا يتصورون بأن يكون هناك تعدد في الفكر والرؤى، ويرون أن الحق المطلق والهداية والسعادة تكمن في اتباع مذهب معين، والمخالفين لهم يتسمون بالعناد عن الحق أو أنهم من المستضعفين والجهلة من عوام الناس الذين خدعهم علماء المذهب الذي ينتمون إليه، وإن كثرة المذاهب توصد باب السعادة أمام البشر وتحجب أنوار الهداية عنهم!

يقول أحد رجال الدين ما نصه: "الإسلام دين واحد لا أديان متعددة وإسلامات متنوعة كما يحب أن يروج خصومه، ومن ثم كان الأمر بالجماعة، والتحذير من التعدد الاعتقادي داخل المجتمع الإسلامي"، ويقول عن مفهوم التعددية الدينية إنها محاولة لاستبعاد نظام الإسلام العقدي والشرعي على الطريقة الغربية في هدم النصرانية المحرفة، وبالتالي فإن هذا المفهوم في نظره مبدأ "علماني" يحاول إلغاء الأديان أو اختزالها في مفهومها البشري.

وفي إجابته عن السؤال المطروح حول "من يملك حق تعيين الحق وفرضه على العالمين.. ما دامت كل طائفة وفرقة.. تدعي امتلاك الحقيقة"؟ يقول إن الحق هو ما يثبت بدليل الشرع الذي "لا يخلو من تضمنه للدليل العقلي غالبا ولا سيما في أمور الاعتقاد، ومن ثم فلا مجال للرأي ولا للرأي الآخر في القضايا المحسومة بأدلة الشرع"!

وبناء على ما سبق، يحق لنا أن نسأل: أليست هناك تفاسير متعددة ومختلفة للقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة؟ ألم يختلف علماء المسلمين على مر التاريخ في كثير من المسائل الفقهية والأحكام الشرعية؟

قد يقول قائل: "ما كان محل تنازع وجدل فالمرجع فيه عند المؤمنين القرآن وصحيح السنة، وذلك وفق الاستدلال الأصولي ومعايير الاستنباط الشرعي"، وأقول: إن التفاسير المختلفة لنصوص القرآن والسنة تعود في الأساس إلى الاختلاف في القواعد والمعايير واختلاف المناهج في الاستدلال الأصولي والاستنباط الشرعي.

ورد في الروايات "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، أي أن الحامل للعلوم الدينية ربما لا يعلم بما يحمله من معارف، قد يحملها إلى شخص آخر يفهمها بصورة أفضل منه، وبالتالي نحن نعيش التعددية في عالم التفسير والفقه دائما، فلا يوجد هناك خاتم للمفسرين أو خاتم للفقهاء أو خاتم للشارحين.

هذه التفاسير والشروح متعددة ومتنوعة وكل مذهب يعتبر فهما خاصا عن الإسلام، ولكن أتباع المذاهب يرون لأنفسهم حظوة خاصة عند الله عزّ وجل، ويرون دينهم أو مذهبهم الحق المطلق والنجاة من نصيبهم وحدهم من دون الآخرين، وهنا يتحول المجتمع إلى جحيم لا يطاق في غياب القوانين والتعددية.

هناك علاقة تبادلية بين التعددية المذهبية وقوانين تجريم الطائفية، والقانون هو المدخل لوجود التعددية في المجتمع ومن ثم الحد من الصراع الطائفي، والمتعصبون أشبههم باللصوص وقطاع الطرق الذين يسرقون الناس حياتهم وأموالهم حتى يعيشوا بشكل أفضل على حسابهم، فكذلك هم يسرقون أفكار الناس ويسلبون معتقداتهم حتى يفرضوا سطوتهم وسلطتهم ويعيشوا أفضل منهم، والتحدي الأكبر هو: كيف يهضم المجتمع ويقبل بحقيقة التنوع والاختلاف بين الناس كطبيعة بشرية ويحترم حق كل إنسان في رأيه ومعتقداته؟